من الملاحظ أن هناك توجهات عالمية ترمي إلى إعادة النظر في الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي أبرمت بين مختلف البلدان في العقود الماضية، ففي الأسبوع الماضي وقعت - بصورة نهائية - اتفاقية جديدة بين بلدان أميركا الشمالية، وهي الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، كبديل لاتفاقية «النافتا» التي أبرمت في التسعينيات، وذلك بمبادرة من واشنطن، وبتمنع لم يستمر طويلاً من قبل المكسيك وكندا. في هذا الاتجاه نفسه، يتم إعادة تقييم الاتفاقيات السابقة للولايات المتحدة مع الصين والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والهند.
للوهلة الأولى يعتقد البعض، بأن ذلك يعود إلى رغبة ذاتية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أما الحقيقة، فهي غير ذلك تماماً؛ إذ أن ذلك يعود إلى التغيرات الهيكلية التي طالت الاقتصاد الدولي، والناجمة عن التقدم التكنولوجي الذي تحقق في العقدين الماضيين، وبالأخص في مجالي الذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية، والتي تهيمن عليهما الولايات المتحدة، حيث لم تعد الاتفاقيات السابقة تستجيب لهذه التغيرات السريعة، من وجهة نظر المصالح الأميركية.
ولنأخذ، على سبيل المثال، التغيرات التي أدخلت على اتفاقية «النافتا» بين الدول الثلاث؛ إذ سنلاحظ أن تجارة واشنطن مع المكسيك تعاني من عجز سنوي بمقدار 100 مليار دولار، في حين يقدر العجز الأميركي مع كندا بمقدار 27 مليار دولار سنوياً، حيث تحاول واشنطن إعادة رسم العلاقات؛ إذ نلاحظ، بأن أهم التغيرات التي أجريت على الاتفاقية تتضمن المنتجات والسلع الرقمية، بما فيها الأفلام والكتب الإلكترونية والموسيقا وألعاب الفيديو ومواد البث التدفقي الأخرى، حيث ستستفيد من ذلك شركات التكنولوجيا الأميركية بصورة رئيسية، كما شملت التغييرات أن يكون 40-45% من قيمة السيارات من عمال المصانع ذات الأجور المرتفعة، وهو ما يمنح أفضلية لمصنعي السيارات الأميركية التي تعتمد على التقنيات الحديثة. وتحوطاً للتغيرات المستقبلية، فقد اشترطت واشنطن إعادة النظر في الاتفاقية بعد ست سنوات، لمراعاة ما يتم تحقيقه من تقدم تقني.
ضمن هذا النسق، أعيد النظر في اتفاقيات الولايات المتحدة مع الصين، والتي أشرنا إليها سابقاً، والتي حققت معها واشنطن مكاسب كبيرة، رغم التردد والممانعة الصينية، إذ يتم الآن إعادة النظر في اتفاقيات الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي، حيث هددت الإدارة الأميركية، الأسبوع الماضي، بفرض رسوم إضافية على الواردات الفرنسية بمقدار 1.3 مليار دولار، وذلك رداً على نوايا باريس فرض رسوم على خدمات الشركات الأميركية الرقمية في فرنسا، مما يعني أن إعادة النظر في الاتفاقيات بين الجانبين، هي مجرد وقت.
مثل هذا التحول الناجم عن التقدم التكنولوجي لم يقتصر على العلاقات الثنائية بين الدول، أو في نطاق تكتلاتها، وإنما شمل ذلك أيضاً الاتفاقيات الدولية، حيث تهدد الولايات المتحدة الآن بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، والتي لا تستجيب اتفاقياتها لهذه التغيرات من وجهة النظر الأميركية، مما يعني، إما انهيار هذه المنظمات، أو إعادة النظر في اتفاقياتها السابقة وتعديلها، لتستجيب لمرحلة الذكاء الاصطناعي والتوسع في التعاملات الرقمية التي تديرها واشنطن بدرجة رئيسية.
المشكلة هنا لا تكمن في التغييرات بحد ذاتها، فالاتفاقيات يمكن إعادة النظر فيها، إذ تم ذلك على مدى التاريخ الحديث، إلا أن ما يتم حالياً مختلف تماماً، فالتعديلات الحالية تعني انتقالاً للثروات بصورة مذهلة، فإذا أخذنا، على سبيل المثال، النشاط المحموم وسريع الانتشار لشركة أمازون الأميركية، وإلى حد ما شركة علي بابا الصينية في مجال التجارة الإلكترونية، فإننا سنجد أن هذا الانتشار يساهم بصورة خطيرة في انهيارات وتدمير لتجارة التجزئة في بقية بلدان العالم، ويؤدي إلى انتقال ثروات هائلة، بدليل تحول أمازون مؤخراً إلى أكبر شركة في العالم من ناحية القيمة السوقية، بما يتجاوز 1.5 تريليون دولار. مما يعني ضرورة الاستعداد والتحضير لهذه التغيرات ومحاولة التأقلم معها، رغم صعوبة ذلك.
*مستشار وخبير اقتصادي