الحضارات نوعان؛ حضارة الكلمة، مثل معظم الحضارات الشرقية باستثناء الحضارة اليابانية، وحضارة الطبيعة، وهي الحضارة الغربية الحديثة باستثناء المرحلة الأخيرة بعد ظهور علم اللسانيات الحديث.
في حضارة الكلمة، تكون الكلمة العنصر المتوسط بين الإنسان والطبيعة؛ فلا يُفهم العالَمُ إلا من خلال الكلمة، ولا توضع قواعدُ السلوك إلا بالاستنباط منها. والكلمة هي السبيل لفهم الدين وتسمية العالم، ولذا نشأت علوم التأويل لفهم الخطاب الإلهي الذي يصل إلى العالم عبر الوحي، والخطاب الإنساني الذي يصل الإنسان بالعالم.
ولكن في حضارة الكلمة يمكن أن تغيب علوم التأويل، وتحل محلها التجربة الروحية التأملية، كما في الهند، أو التجربة الأخلاقية الاجتماعية كما في الصين.
وتتطور حضارة الكلمة عن طريق الفهم والتفسير والتأويل كمقدمة للفعل، ما يتطلب وعياً نظرياً لغوياً ومنطقياً هو ما أضافته حضارات الكتب المقدسة في الشرق، ففي اليهودية كل كتاب لاحق يرتبط بالكتاب السابق شارحاً له. فالمدراش شرح للتوراة، والتلمود شرح للمشنا، وقد انتشرت مدارس التنزيل والتأويل، مثل الحلقا والهاجادا، ونشأت مناهج الاستدلال والفتاوى، وأصبح التراث اليهودي حلقات يخرج بعضها من بعض آخر. والمسيحية نفسها قراءة روحية أخلاقية لليهودية، ولذا نشأت علوم التأويل منذ عصر آباء الكنيسة عند أوريجين في «الديا تصيرون» وأوغسطين في «الفقيه المسيحي»، وتم تقنينها في نظرية المعاني الأربعة في العصر الوسيط. وجاء الإسلام بعد المسيحية واليهودية، واضعاً أسس الاجتهاد والتجديد والإصلاح، ومنتِجاً لعلوم التأويل قبل الغرب الحديث.
وقد حدث وعي نظري بتحليل الخطاب عند اليونان بمنأى عن البعد الديني، بالتأمل في اللغة والبرهان وصياغة ذلك في المنطق بأبحاثه الثمانية: المقولات والعبارة والقياس والبرهان والجدل والسفسطة والخطابة والشعر، فالخطاب ألفاظ وعبارات وأقيسة، له دلالات ومعان، وله مقاييس صدقه في اتساق النتائج مع المقدمات، فإن غاب هذا النمط المثالي من الخطاب في منطق اليقين، لم يبق إلا خطاب منطق الظن، إما للدفاع عن النفس ودحض الخصم، كما هو الحال في الجدل أو التمويه، أو للتأثير في النفس عن طريق الخطابة أو التخييل عن طريق الشعر.
وقد كان هذا الوعي النظري بالخطاب أساس تحليل الخطاب في العصور الحديثة، بعد أن تجاوز الإشكال الديني الشرقي، أي الكلمة كواسطة بين الإنسان والعالم إلى الكلمة في ذاتها بمنطقها الداخلي، وكعالم مستقل وليست كمجرد واسطة بين عوالم.. فاللغة «منزل الوجود» كما يقول هايدجر، والعالم إشارة وعلامة ودليل.
وكان ذلك مكسباً للعصور الحديثة، عندما تحول تحليل الخطاب من المستوى الأدبي إلى المستوى الإنساني، حيث أصبح علم التأويل أو الهرمنطيقيا علماً إنسانياً وليس علماً ميتافيزيقياً بفضل «شليرماخر»، فالكلام يتكون في وعي الإنسان، وهو الذي يستبطن مقاصده، ولذا بدأ النقد التاريخي للنصوص في العصور الحديثة، وبدأ التحول من الموضوعية إلى المثالية، ومن الموضوع إلى الذات، وبذلك تحول النص إلى مجموعة من الوحدات لها أشكال أدبية، مثل قصة أو خبر أو إنشاء أو أمر أو نهي، إلى آخر ما هو معروف من أساليب وأشكال التعبير.