في مؤتمر وزراء الخارجية العرب من أجل سلام ليبيا، أعجبني كلام وزير الخارجية المغربي بوريطة الذي ذكر نقاطاً ستاً: الإصرار على الوقف الفوري لإطلاق النار، حتى يتوقف العنف والقتل والدمار، وتبنّي مقررات مؤتمر برلين لجهة الحلّ السياسي، وتشكيل لجنة عربية مصغَّرة لمتابعة الأزمة الليبية، وزيادة التأثير في الحلّ السلمي، واستنهاض العمل العربي المشترك والدفاع المشترك، ليشعر الليبيون أولاً، والإقليميون والدوليون ثانياً، بأنّ العرب جادُّون في حماية وحدة ليبيا واستقرارها، ومعارضة كل التدخلات الأجنبية، السياسية والعسكرية، في الشأن الليبي.
منذ عام 2010 (والذي للطرافة والغرابة، شهد مؤتمراً للقمة العربية بمدينة سِرت الليبية!) ما ارتاح العالم العربي مشرقاً ولا مغرباً. ففي المشرق ازداد العراق تفجراً، وتفجرت سوريا، وتداعى لبنان تحت وطأة السلاح. وفي شبه الجزيرة العربية جرى الغزو الحوثي لليمن. وفي المغرب اندلعت في تونس وليبيا.. وأخيراً في الجزائر، الاحتجاجات. وقد سلِمت مصر ثم السودان بالجيش، وتونس ثم الجزائر بوعي الشعب ورزانة الجيش والأجهزة الأمنية. أما الأزمات الأُخرى، التي هددت وتهدد كيان الدول ووحدة الشعب، فما تزال مندلعة.
وإذا تتبعْنا مسار أزمات «الربيع العربي»، نجد أنّ المستمرّ منها حتى اليوم له علتان: حلول حكم الميليشيات محل حكم الدولة الوطنية، وسيطرتها على موارد البلدان وأمنها، والتدخل الخارجي الإقليمي والدولي؛ بحجة إعادة الاستقرار ومكافحة الإرهاب. وفي الحقيقة، صار الدوليون والإقليميون يديرون هذا الاضطراب بواسطة الميليشيات التي أسهموا في إيجادها، أو في دعم استمرارها، ثم صاروا ينفذون مصالحهم مباشرةً، أو بواسطتها.
وما من دولة من دول الاضطراب العربي الحالية، إلا وصدر بشأنها قرار دولي من مجلس الأمن، يرسم الأُفق لحلٍ سياسي واستعادة الانتظام للسلطات والأمن الداخلي. وأقدم القرارات الدولية ضد الميليشيا والسلاح، هو الذي صدر عن مجلس الأمن عام 2004، ورقمه 1559 لنزع سلاح «حزب الله» بلبنان! لكن ثاني أقدم القرارات الدولية، هو الذي صدر بشأن ليبيا عام 2011، وبمقتضاه جرى إسقاط الحكم الليبي وقتل العقيد القذافي! ماذا صار بأهداف القرارات الدولية؟ بعضها سار مساراً أعرج، ثم سقط، أو أسقطه واضعوهُ أنفسهم، باستخدامه في التدخل، ثم تجاهلوه على طول الخط حتى اليوم.
وفي اليمن، تدخلت إيران منتصرةً للميليشيا المذهبية الحوثية في انقلابها على السلطة الشرعية، فرأى الخليجيون في ذلك، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، خطراً على أمنهم الوطني والقومي، وعلى مصائر اليمن، وحدةً واستقراراً ودولة. ولا يزالون يقاتلون الانقلاب منذ أكثر من خمس سنوات، إلى جانب الحكومة الشرعية، وما تزال البالستيات والمسيَّرات الإيرانية والمتأيرنة تنهال على جهات المملكة!
أما في ليبيا، وقد استولت الميليشيات الإخوانية والإرهابية الأُخرى على طرابلس وحكومتها ومصرفها المركزي، فإن جهات عربية وبعد أن يئست من حكومة السراج وميليشياته، آثرت دعم الجيش الوطني والبرلمان المنتخب. وقد حرّر الجيش الوطني سرت والجفرة والهلال النفطي، وتقدم نحو طرابلس، فسارعت حكومة السراج إلى الاتفاق مع تركيا على دعمها بالسلاح ومقاتلي المرتزقة والأركان التركية، مقابل تأجيرها ثروات البلاد، براً وبحراً، لأنقرة!
إنّ مصر عندما تتدخل في ليبيا بمبادرة لوقف إطلاق النار، وللدخول في الحل السياسي من خلال مؤتمر برلين، إنما تحفظ أمنها الوطني من الإرهابيين، وتصون وحدة ليبيا واستقرارها. وهي عندما تُهدّد باستخدام القوة لمنع تركيا من الاستيلاء على الهلال النفطي، إنما تصون ثروات الشعب الليبي ووحدته ومصالحه الوطنية.
هذا زمن النهوض والخروج من الانقسام، بالعمل العربي المشترك، وبالدفاع المشترك. ومرحباً بالإجماع العربي، وبالمبادرة المصرية.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية