وائل بدران وأمير الألفي ومعتز نادي (أبوظبي)
من دهاليز وكالات الأمن القومي إلى أروقة شركات التكنولوجيا العملاقة، وأجهزة الاستخبارات وحتى الاستحقاقات الانتخابية، بات «الذكاء الاصطناعي» يمتلك مفاتيح التحولات العميقة في العلاقات السياسية والاجتماعية، وينذر بتغيير موازين القوى العالمية.
لم يخطر في بال المجتمعات أن بضع خوارزميات وقليلاً من النقرات التي تشكل نبضات وسائل التواصل الاجتماعي قادرة على إحداث تغييرات سياسية  كبيرة، لتفاجئ المجموعات البشرية بعد وقت قصير أو طويل بخيارات لم تكن في حسبانها، وهو ما تستعرضه «الاتحاد» في هذا التحقيق الذي يقرأ واقع قضية راهنة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعالمنا المعاصر.
فالخوارزميات التي تعد القلب النابض والمحرك الرئيس في معادلة الذكاء الاصطناعي، ساهمت في توجيه هذه المجموعات سياسياً عبر تحليلات عميقة لشخصيات الأفراد، لتكون الخلاصة أن من يمتلك هذه الأدوات، ويبرع في ابتكار الخوارزميات مؤهل لأن يحكم العالم. 
أنظمة الذكاء الاصطناعي التي بلغ سوقها أكثر من 126 مليار دولار، تشمل جميع المجالات السياسية والاجتماعية عالمياً، من السياسات الأمنية وليس انتهاء بالعمل الإنساني، فالتعامل مع الجريمة والنزوح والإرهاب وضبط الحدود وحتى الحوكمة والأمن والعمل الخيري يعاد تشكيله عبر «منطق خوارزمي» جديد ونماذج وكم هائل من البيانات الضخمة مستقاة من مجالات شتى.
تشكيل العلاقات
يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل طريقة إدارة الشعوب والمجتمعات والأفراد، كما يعيد تشكيل موازين القوى، والعلاقة بين الحكومات والشعوب، ويكشف عن معارف عميقة بشأن الأفراد والمجتمعات، حسبما يؤكد خبراء وأساتذة في العلاقات الدولية لـ«الاتحاد».
وتقول أستاذة العلاقات الدولية، بجامعة ولونجونج الأسترالية، إيمان عجالة: «الهاجس الرئيس، من وجهة نظر مجتمع العلاقات الدولية، فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي هو تأثيراته على الأمن القومي، وكيف يمكن أن يعيد تشكيل توازن القوى»، لافتة إلى تزايد التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي.

وتضيف عجالة، من فرع الجامعة في دبي، لـ«الاتحاد»: «لذا السؤال هو: ما الآثار المحتملة على مستقبل الحروب أو الاستقرار الاستراتيجي على سبيل المثال؟».
الخوارزميات، وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المرتبطة بها، في طريقها لتصبح حلاً مشتركاً لكثير من المشكلات العالمية المتباينة والمتنوعة، عبر ما بات يعرف بـ«المنطق الخوارزمي»، والذي يستخدم لتقديم «تفسيرات منطقية» لتصرفات بشرية عشوائية، في عملية يمكن وصفها بـ«توليد النظام من رحم فوضى» البيانات الضخمة. 
عبر الذكاء الاصطناعي، يمكن تقديم خوارزميات ترصد سلوك الأفراد والمجتمعات وتؤثر فيها، سواء أكانت صديقة أم غير صديقة، وكذلك الأمور الطبيعية وغير الطبيعية في أنحاء العوالم الاجتماعية والحدود السياسية. 
على سبيل المثال، يمكن التكهن بتصرفات قادة الدول والسياسيين، وفقاً لنماذج ذكاء اصطناعي تمت تغذيتها ببيانات هائلة، فإذا كان أحد الرؤساء مؤمناً بنظريات مثل الواقعية أو الليبرالية الجديدة، أو المثالية السياسية في السياسة الخارجية، فمن الممكن عبر هذه النماذج التكهن بقراراته، في قضايا محددة. 
وهذا ما يؤكده ماثيو باي، كبير محللي الشؤون الدولية لدى مؤسسة «ستراتفور» للأبحاث التابعة لـشركة «رين» الأميركية قائلاً: «بالتأكيد هناك عدد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الدبلوماسية، بما في ذلك وضع نماذج للتكهن بأفعال القوى السياسية، وكذلك نماذج للتدريب على النقاشات وخطط الاستجابة، لاسيما في حالات الطوارئ». 
وفي الوقت الذي يخشى فيه كثيرون من تداعيات الذكاء الاصطناعي على مستقبل الحروب والصراعات، سواء عبر استخدام هذه الأنظمة كأسلحة، مثلما أشارت إيمان عجالة، أو استخدام نماذج مخصصة للمساعدة في اتخاذ القرار، استبعد ماثيو باي أن يؤدي الذكاء الاصطناعي في حد ذاته إلى اندلاع مزيد من الحروب أو منعها. 
لكنه رجح بدرجة كبيرة استخدام الذكاء الاصطناعي كتكنولوجيا رئيسية في الصراعات، مؤكداً أن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب أصبح مجال نقاش محتدم بين الخبراء والأكاديميين والحكومات نظراً للقضايا الأخلاقية المحيطة به.
وأضاف باي أن دمج الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الأخرى، مثل «الأنظمة ذاتية القيادة»، من المحتمل أن يقلص العقبات أمام الصراعات، من حيث تقليص فقدان الأرواح على نطاق واسع.
وتوقع المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الدولية أن يصبح الذكاء الاصطناعي محور تركيز المفاوضين في إطار جهود «الحد من التسلح»، لينافس، ربما في المستقبل، الأسلحة النووية. وأشار باي إلى أن الذكاء الاصطناعي سيغير موازين القوى بين الدول، لاسيما فيما يتعلق بالقوى العسكرية والاقتصادية.
موازين القوى
الذكاء الاصطناعي يشي بتغيير موازين القوى العالمية، سواء من حيث القدرة على تطويره باعتباره ثروة عملاقة بقدرته على معالجة البيانات الضخمة، والتي يصفها البعض بـ«نفط العالم الجديد»، أو من حيث استخدامه في صنع القرار أو الحروب عبر شنّها أو الحيلولة دون وقوعها. 
ويرى المحلل الأميركي أن بلاده مؤهلة للاستفادة من ذلك، تليها الصين وجنوب آسيا، فهيمنة الولايات المتحدة على قطاع التكنولوجيا، وحقيقة أن كثيراً من الشركات الأميركية رائدة في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة، تشيران إلى أنها، على الأقل بين الدول الغربية، ستظل مهيمنة على هذا المجال، كما كانت طول ربع القرن الماضي منذ أن شهدت شبكة الإنترنت انتشاراً ونمواً واسع النطاق على المستوى العالمي.

ورغم ذلك، نوّه إلى أن القواعد التنظيمية الكثيرة للخصوصية والذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي ستعيق قدرة التكتل على الأرجح في توفير بدائل لأنظمة الذكاء الاصطناعي المطورة في الولايات المتحدة، مثلما أعاقت البيئة التنظيمية والسوق الرقمية المشتتة هناك إيجاد شركات منافسة لآبل وأمازون وجوجل خلال العقدين الماضيين، بينما اعتبر الصين مؤهلة بدرجة كبيرة لتحقيق الاستفادة من منافع الذكاء الاصطناعي.
عمالقة التكنولوجيا والاستخبارات
داخل معرض بمتحف العلوم في لندن، خُصّص للاحتفاء بمئوية وكالة الاستخبارات البريطانية GCHQ عرضت بوضوح صورة من تظاهرة مناهضة لـ«فيسبوك»، وتشير الصورة إلى أن شركات التكنولوجيا مثل «ميتا» هي التي تقوم بمراقبة جماعية للناس وليس وكالات الاستخبارات.
وفي أعقاب تسريبات المتعاقد السابق مع الاستخبارات المركزية الأميركية، إدوارد سنودن، أقام ائتلاف من المنظمات غير الحكومية دعوى ضد الرقابة الجماعية من قبل وكالات الاستخبارات البريطانية أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، وأشارت إلى مدى التداخل بين الرقابة الحكومية والتجارية عبر التعاون المباشر وعبر البنية التحتية وتقنيات تحليل البيانات، فرسائل الفيسبوك والبريد الإلكتروني بين اثنين من سكان لندن يمكن أن تمر عبر «الخوادم» (السيرفرات) في كاليفورنيا، ومن المحتمل اعتراضها عبر تقنيات الرقابة البريطانية أو ترتيبات مشاركة المعلومات الاستخباراتية مع الولايات المتحدة، ومن ثم تخضع للتصنيف والتحليل.
لكن، رغم ذلك، يرى تقرير لجنة الأمن القومي الأميركية، المنشور في نهاية عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، أن وكالات الاستخبارات تجازف بالتخلف عن أفضل ما توصلت إليه التكنولوجيا في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، لأنها لا تواكب عمل الشركات التجارية معاً، وإنما تتخلف عنها  في استخدامها للتكنولوجيا الجديدة، وفي القلب منها الذكاء الاصطناعي.
وترى وكالة الأمن القومي الأميركي أن المنافسة المحتدمة مع المراقبة التجارية تتطلب دمج الذكاء الاصطناعي بدرجة أكبر بكثير في العمل الأمني.
ثقة وتنبؤ
شركات التكنولوجيا الكبرى والوكالات الأمنية ليست وحدها هي التي توظف هذه التكنولوجيا، وتشيد ببراعتها، وتتقبلها قبولاً حسناً باعتبارها حتمية.
يمكننا أن نرى الثقة في الخوارزميات (اللوغاريتمات)، والبيانات ومن ثم الذكاء الاصطناعي في كل مكان، حكومي وخاص.
فعلى سبيل المثال، تعاونت منظمة «أنقذوا الأطفال» غير الحكومية مع شركة «بوسطن جروب» للاستشارات، بهدف تطوير تكنولوجيا تحليلية تنبؤية لعملها حول النزوح، عبر مجموعة عملاقة من البيانات، أملاً في أن تصبح ثمرة تعاونهم مستقبل العمل الإنساني.
الهدف من النموذج الأولي للذكاء الاصطناعي الذي طورته «أنقذوا الأطفال» هو التنبؤ بمدة ونطاق النزوح القسري ومن ثم إحداث تحول في العمل الإنساني عبر الإجابة عن الأسئلة مثل: في ضوء الموارد والقدرات المحدودة، هل الأولوية لتوفير المياه عبر شاحنات أو إنشاء خط أنابيب مياه؟ وهل توزيع قسائم الطعام أفضل أم تقديم دعم زراعي؟ وبناء مخيمات أو نقل الناس إلى مساكن طويلة الأمد ودعمهم للعمل في المجتمع؟ 
التمييز بين ما يمكن تصنيفه على أنه أزمة قصيرة الأمد أو طويلة الأمد أصبح يُحال إلى نموذج الذكاء الاصطناعي التنبؤي الذي يتوقع الأزمات وآمادها، ومن ثم، يبشر بإعادة تشكيل العمل الإنساني.
ويقول الدكتور ويليام جيريش، أستاذ ومدير برنامج ماجستير العلاقات الدولية بجامعة ولونغونغ في دبي، إنه فيما يتعلق بصنع القرار في عالم السياسة، فتشير التقارير إلى أن الذكاء الاصطناعي جرى استخدامه بالفعل أثناء أزمة «كوفيد -19»، لكنه اعتبر في تصريح لـ«الاتحاد» أن الذكاء الاصطناعي أداة إضافية في اتخاذ القرار.

«منطق خوارزمي»
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات العملاقة المشابهة، إخبارنا بكثير من التقديرات السياسية والاجتماعية؟ وكيف أصبحت حلاً حتمياً للمشكلات التي تواجه حكومات العالم في القيام بمهامها من الأمن إلى السياسة والدبلوماسية؟
خوارزميات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المرتبطة في طريقها لتصبح حلاً مشتركاً لكثير من المشكلات العالمية المتباينة والمتنوعة، عبر ما بات يعرف بـ«المنطق الخوارزمي»، فالخوارزميات لديها قدرات استثنائية ومبهرة، ويتم تعظيمها بقوة «تعلم الآلة»، وشراهة جمع وتحليل البيانات العملاقة.  ويعود أصل كلمة خوارزميات إلى اسم عالم الرياضيات محمد بن موسى الخوارزمي الذي يرجع له الفضل في اعتماد الترقيم العشري في الغرب، والمصطلح اليوم يعني سلسلة من التعليمات يُطالب الحاسوب بتطبيقها بصفة آلية. وتُستخدم الخوارزميات في المجالات كافة، من الاستعلامات بواسطة محركات البحث إلى البورصات المالية، مروراً بانتقاء المعلومات لتوصية مستخدمي الإنترنت، وفق تعريفات «اليونيسكو».
من جهته، يشير الدكتور فلوريان غيرث، أستاذ الاقتصاد المساعد، من برلين، إلى أن الذكاء الاصطناعي أداة بالغة القوة، إذ يمكنها المساعدة في التنبؤ بأشياء مستقبلية بناء على الأحداث الماضية.  غيرث أوضح أنه في حالة مضى عالم العلاقات الدولية والسياسة والاقتصاد وأي نوع آخر من العلوم الإنسانية قدماً وفقاً للأنماط التقليدية المستقرة، فإن الذكاء الاصطناعي سيتمكن من التكهن بكثير من المشكلات والمعضلات الأمنية. وعلاوة على ذلك، باستطاعة الذكاء الاصطناعي تفكيك البيانات الصغيرة والعملاقة وإعادة تجميعها، ومعالجتها عبر أنظمة متنوعة وفق «منطق خوارزمي»، على نحو يُمكّن من اتخاذ قرارات أكثر فاعلية. وقد لا يكون ذلك استثنائياً، لكن من شأنه إحداث تحول في كيفية إدارة الأفراد والمجتمعات لأنفسهم وللآخرين.  
وعلاوة على ذلك، بالنسبة لخبراء الأمن وعلماء البيانات، فإن أحد أعظم وعود الذكاء الاصطناعي، وتعلم الآلة، هو إمكانية تحديد الأنشطة المشبوهة عبر اكتشاف «أمور بسيطة غير مألوفة»، فعلى سبيل المثال، برنامج «سيجينت» يرصد أرقام الهواتف التي لا تستخدم كثيراً، ويربط تفاصيل صغيرة ببعضها. 

خوارزميات الانتخابات
في تجربة واضحة على تطبيق خوارزميات التواصل الاجتماعي، وتأثيرها المدوي على الاستحقاقات السياسية، تأتي واقعة شركة كامبريدج أناليتيكا للاستشارات السياسية في المقدمة، إذ تورطت في حملات انتخابية في نحو 200 دولة عبر العالم، كما أسهمت في أكثر من 40 استحقاقاً انتخابياً في الولايات المتحدة الأميركية فقط. ولكن كان النشاط الأبرز للشركة خلال حملة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، ثم بشكل أبرز في الحملة الرئاسية للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وقال كريس ويلي، المدير السابق للأبحاث في كامبريدج أناليتيكا الذي اتُهم بجمع بيانات عبر الإنترنت بشكل غير قانوني لما يصل إلى 50 مليون مستخدم على «فيسبوك»، إن البيانات التي جمعتها الشركة ساعدت في التأثير على حملات الانتخابات الأميركية، وكذلك ربما ساعد في التأثير على النتيجة النهائية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وهناك أيضاً برنامج مثل «إكس كي سكور»، وهو برنامج تستخدمه وكالة الأمن القومي الأميركية في تحليل بيانات الإنترنت، ويساعد في التعرف على خلايا الإرهابيين التي لا يوجد لديها اتصال بمشتبه بهم معروفين، عبر رصد أحداث غير مألوفة، كرصد مكالمة لشخص لغته ليست مستخدمة في مكان محدد، أو شخص يبحث عبر الإنترنت على شيء مشبوه. فبالذكاء الاصطناعي، تتحول لغة متخصص الأمن من الأمور غير المألوفة والملفتة إلى الشك، ومن ثم يصبح موضع اهتمام، حتى يتحقق من صحة شكوكه أو بطلانها. وفي هذا الإطار، تعتقد ناتاليا لوك، المحللة الكرواتية المتخصصة في الأمن القومي، والتي تتخذ من زغرب مقراً، أن الذكاء الاصطناعي بلا شك يشق طريقه في عالم السياسة والحكم على الصُعُد الوطنية والدولية، مشيرة إلى أن العلوم السياسية ليست غريبة على استخدام الرياضيات ونظم المعلومات التي تركز على التنظيم والإدارة والتحكم، على المستوى النظري، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وأضافت لوك لـ«الاتحاد»: «حتى في الوقت الراهن لا يزال من الممكن تعلم الكثير من الأعمال الرائدة للعالم السياسي كارل دويتش، وعالم الرياضيات نوربرت وينر الذي وضع أسس نظم المعلومات التي تركز على التنظيم والإدارة والتحكم (سيبرنتكس)». وتابعت: «كما هي الحال في مجالات النشاط البشري الأخرى، فإن التقدم التكنولوجي يمكن من تحقيق نمو مطرد في إمكانية تطبيق الذكاء الاصطناعي على سلسلة واسعة من أنشطة الدول على المستويات المحلية والعالمية»، مضيفة: «بفعل ذلك، لا شك أن نطاق وعمل الاستخدام سيعتمد بصورة مباشرة على القدرات المالية للدولة نفسها».
العالم الرقمي
في عصر التكنولوجيا الرقمية، أصبح العالم يتعرض للذكاء الاصطناعي كل يوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعلى شبكات الإنترنت، واعتاد الناس على استهدافهم بتطبيقات الذكاء الاصطناعي كجزء من حياتهم الرقمية، بينما تتسرب «خلسة»، المعلومات والبيانات حول كل شيء من الأمن إلى الإعلانات والتوجيهات السياسية والقرارات التجارية.
ومطلع العام الجاري يشير تقرير We Are Social المختص بقراءة بيانات العالم الرقمي إلى وجود نحو 4.76 مليار مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي حول العالم، أي ما يقل قليلاً عن 60 في المائة من إجمالي سكان العالم الذي يقدر بنحو 8 مليارات.
وتكشف أرقام التقرير أيضاً عدد المستخدمين النشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، فمنصة Meta أو فيسبوك لديها 2.958 مليار مستخدم نشط شهرياً، وهو ما يعادل ما يقارب 37 في المائة من إجمالي سكان العالم، بينما موقع «يوتيوب» لديه أكثر من 2.5 مليار مستخدم كل شهر، فيما يمتلك موقع «إنستجرام» نحو 2 مليار مستخدم نشط شهرياً، أما منصة «تيك توك» فلديها حوالي 1.051 مليار مستخدم شهرياً، و«تويتر» حوالي 556 مليون مستخدم نشط شهرياً.
وبنظرة رقمية على حجم سوق برمجيات الذكاء الاصطناعي عالمياً، سيجد قارئ تلك السطور نمواً متزايداً ومتوقعاً بداية من 2020 بنحو يتجاوز 22 مليار دولار وصولاً إلى 2025 بقيمة تصل إلى 126 مليار دولار.
الأرقام تأتي مدفوعة بنحو 250% نمواً في تبني حلول الذكاء الاصطناعي خلال عام 2022، ومن المتوقع بحلول عام 2035 أن يصل حجم ذلك السوق في قطاع المعلومات والاتصال إلى نحو 5 تريليونات دولار، وفقاً لـ IDC المتخصصة في أبحاث تكنولوجيا المعلومات.
وفي هذا العصر، أضحت الوكالات الأمنية حول العالم، مرتبطة مع شركات التكنولوجيا مثل «فيسبوك» و«جوجل» في تحويل «الناس إلى بيانات» أو «رقمنة البشر»، غير أن هذا الارتباط ليس وثيقاً، فالشركات تزعم حماية الخصوصية ضد المراقبة الجماعية ومراقبة وكالات الاستخبارات، وفي المقابل تؤكد وكالات الاستخبارات أنها وحدها من تنفذ عمليات رقابة مشروعة، لحماية الأمن.
لوك أكدت أن الاستثمارات المالية المستقبلية ستكون ضرورية فيما يتعلق بالجانب التقني من حيث التجهيزات الضرورية، وكذلك أيضاً في قطاع الاستخبارات، والذي سيضطر في هذه الظروف إلى إحداث تغييرات هائلة في طريقة عمله.
الذكاء الاصطناعي، باعتباره مجموعة من التكنولوجيات الرقمية، أصبح أداة استهداف بالغة القوة، لدرجة جعلت لجنة الأمن القومي الأميركية تؤكد أن «الأمن القومي» لن يتحدد فقط وفقاً للذكاء الاصطناعي، وإنما عبر الاستخدام الخاص لهذه التكنولوجيات في التسويق والإعلانات المستهدفة.
وترى لوك من المؤكد أن الذكاء الاصطناعي وفر فرصاً في توقع السلوكيات المستقبلية المحتملة للدول، ومن الممكن استخدامه في خلق صراعات في أي مكان في العالم وفي أي وقت. وأوضحت أنه ستكون هناك تبعات بالنسبة لموازين القوى، والتمركزات القائمة في النظام العالمي كذلك. وكثير من هذه التبعات بات واضحاً بالفعل حالياً.

معركة «العقود الثمانية».. حفظ السلم والأمن الدوليين بين الأمم المتحدة والذكاء الاصطناعي
تطوير الذكاء الاصطناعي بدأ تقريباً بعد الحرب العالمية الثانية، كما أشارت المحللة الكرواتية ناتاليا لوك، وتزامن ذلك مع إنشاء منظمة الأمم المتحدة التي كان الهدف من تأسيسها هو حفظ السلم والأمن الدوليين بعد حربين عالميتين أودتا بحياة ملايين البشر ودمرتا الاقتصاد العالمي.  بعد مرور زهاء 8 عقود، يبدو أن الذكاء الاصطناعي، رغم العقبات الكثيرة التي واجهته عند نشأته، ينطوي على إمكانات هائلة يمكن إذا ما استفادت منها المنظمة الأممية في تحقيق الهدف الذي أنشأت من أجله ألا وهو حفظ السلم والأمن. كما يمكن للذكاء الاصطناعي المساهمة في تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً، والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، والتي تشكل في مجملها المقاصد التي أنشئت من أجلها الأمم المتحدة. لوك ذكرت أن الدبلوماسية لن تبقى خارج هذه التحركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وهناك آفاق جديدة تُفتح أمام المنظمات الدولية، والتي عجزت حتى الآن، لأسباب مختلفة، عن الاضطلاع بدورها بالمساهمة في الحفاظ على السلام العالمي. وقالت: «الوقت وحده كفيل بالكشف عن مدى جديتها في الاستفادة من الفرص الجديدة، وإلى أي مدى ستتمكن من استغلالها في المستقبل»، مضيفة أنه «عند تقييم نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي في حكم الدول ووضع سياسات داخلية وخارجية وتنفيذها، فيجب ألا ننسى أو نقلل من شأن العامل الاجتماعي والانفعالي للأفراد، وطبيعتهم كبشر، فالذكاء الاصطناعي سيصعب عليه التنبؤ بالمواقف وفهم تأثيرات كثير مما يقوله البشر، وغيرها من الاصطلاحات غير المتكررة والتي لا تعتمد بالكامل على خيارات منطقية، وكذلك تصرفات وأساليب صنع القرارات لأعظم السياسيين في العالم». لكنها أشارت أيضاً إلى أن المرء لا بد أن يدرك حقيقة أنه في أي نوع من الذكاء، وحتى الذكاء الاصطناعي، إمكانات وطريقة ونطاق استخدامه في الحياة الفعلية يعتمد على المحصلة النهائية والعوامل الموضوعية والظروف التي لا يمكن التنبؤ بها والاستفادة منه وتحليلها بنسبة مئة في المئة. وذكرت لوك أن النظام نفسه، سواء أكان وطنياً أو عالمياً، سيظل دائماً أكثر من مجموع عناصره، وبالتالي، فإن كيفية استغلال الإمكانات المرجوة في مجال الذكاء الاصطناعي ستعتمد بدرجة كبيرة في نهاية المطاف على قدرة حكومة كل دولة على إدراكها وتطويرها بالطريقة الملائمة.
ازدهار وحوكمة
في الوقت نفسه، يعتبر عمرو العراقي، نائب رئيس محور التواصل المجتمعي بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع للحكومة المصرية، خلال حديثه لـ«الاتحاد»: «إننا وصلنا إلى مرحلة ما يستطيع الإنسان فعله.. تستطيع الآلة فعله، وذلك بالقدرة على الرصد والتخزين بذاكرة كبيرة جداً تتغلب على ذاكرة البشر المحدودة مع تطور البنية التحتية للحاسوب والاتصالات، وهذا أحدث ربيع الذكاء الاصطناعي».

يمكن استنباط تعريف الذكاء الاصطناعي في شرح العراقي بـ«قدرة الآلة على التنبؤ بالأحداث وإدراك السلوكيات المحيطة»، ويؤصل تاريخياً لتفسير الأمر بعودة جذوره إلى ستينيات القرن الماضي والمرور بفترة «خريف»، مرجعاً السبب وراء ذلك إلى الظروف التي لم تكن مواتية للتقدم جراء 3 عوامل، منها «شح البيانات، واليوم نعيش عصر البيانات الضخمة، والعامل الثاني ضعف البنية الرقمية، ولدينا حالياً حواسيب وأنظمة معالجة فائقة السرعة، والعامل الثالث بطء نقل البيانات والاتصالات، واليوم وصلنا لتقنيات الجيل الخامس».
ويعتبر العراقي أن الذكاء الاصطناعي مؤهل وقادر على التعامل مع السيناريوهات الطارئة، بالإضافة إلى تحسين العمل بمؤشرات لقياس مدى دقتها وفق البيانات المتاحة.
كما يرى أن هيمنة الذكاء الاصطناعي «لا تتحقق في يوم وليلة» وإنما تصبح مرهونة بشرط الاعتماد عليها في شتى مناحي الحياة، ومع «الجانب المشرق» له يتحدث أيضاً عن «إشكاليات الجانب المظلم الذي يتعلق بالخوارزميات، لأن الآلة ستكون منحازة للبيانات التي اعتمدت عليها كإدخال عدد غير متساو بين الذكور والإناث؛ فستكون النتائج منحازة لفئة عن الأخرى»، وفق مثاله الذي يضيف عليه: «توجد مشكلة أخلاقية أخرى وهي الخصوصية؛ لأنك تخضع الناس وسلوكياتهم لرصد الآلة دون علمهم، وهذا انتهاك لخصوصيتهم».
ويعتقد العراقي أنه «عندما يُعتمد على الذكاء الاصطناعي في العديد من القطاعات، فهذا سيتطلب سنوات من التدريب والاختبار وهو أمر لا يحدث في يوم وليلة، وهو الآن في ربيعه ويزدهر مع زيادة حجم الاستثمارات، وهذا يحتاج إلى الحوكمة، وإيلون ماسك مالك موقع تويتر لديه تحذير من خطورته».
ويلخص وجهة نظره بأن «الآلة جاءت لزيادة إنتاجية البشر، والإنسان اكتشف حضارته كلها من النار، وإذا تخوف منها فلن يكتشف وقتها الثورة الصناعية.. ولو ظل الإنسان خائفاً لبقي في الكهف». 
يختتم حديثه باعتقاده أن «الآلة لم تصل بعد لأن تكون محل البشر، والذكاء الاصطناعي ما هو إلا أتمتة للوظائف والموضوع ليس خطيراً»، موضحاً أنه حتى وإن تسبب الذكاء الاصطناعي في اختفاء وظائف، فإنه بالطبع سيوفر وظائف جديدة، مثلما حدث في «الثورة الصناعية».
ماذا يقول الذكاء الاصطناعي عن حكم العالم؟ 
لم يكن رأي وموقف الذكاء الاصطناعي ممثلاً في أبرز تطبيقاته مثل «شات جي بي تي» و«بارد»، الذي طورته شركة جوجل، مختلفاً عن الخبراء والسياسيين، إذ أكد في رد على أسئلة «الاتحاد» حول هل يحكم الذكاء الاصطناعي العالم، أن أنظمته ليست كيانات ذاتية الحكم، ويتم تحديد أفعالها من قبل البشر الذين يصممونها ويطورونها وينشرونها، ولكن يمكن للأفراد أو المنظمات التي تتحكم في هذه الأنظمة أن يكون لها قوة وتأثير كبيران.
وأضاف الذكاء الاصطناعي، أن «الأشخاص والمؤسسات هم الذين يتخذون القرارات حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي، وهو ما يمنحهم القدرة على التأثير وإعادة تشكيل وعي المجتمع، ولكنها تخضع لعوامل متنوعة منها الاعتبارات الأخلاقية والأطر القانونية والقيم المجتمعية».
ويقول: «يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على تسهيل بعض جوانب حكم العالم، ولكن من المهم إدراك أن هناك قيوداً وتحديات مرتبطة باستخدام هذه التقنية في الحوكمة، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الحكومات والمؤسسات على معالجة كميات كبيرة من البيانات، واتخاذ قرارات أكثر استنارة بناءً على التحليلات التنبؤية. على سبيل المثال، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لرصد التغيرات البيئية والاستجابة لها، أو للتنبؤ بتفشي الأمراض والوقاية منها، وغيرها من القرارات».
وبين أن هناك مخاطر وتحديات محتملة مرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي في الحوكمة، مثل التحيز والتمييز، لأن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تعدو كونها موضوعية مثل البيانات التي يتم تدريبها عليها، لذلك، يثير استخدامها أسئلة أخلاقية وقانونية مهمة، مثل مسؤولية القرارات، وكيف يمكننا ضمان أن يكون استخدامها شفافاً وخاضعاً للمساءلة.
باختصار، في حين أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تسهيل بعض جوانب حكم العالم، فمن المهم التعامل مع استخدامه في الحوكمة بحذر، والنظر بعناية في الفوائد والمخاطر المحتملة.

متى يهيمن؟ 
قبل وفاته عام 2018، حذر عالم الفيزياء ستيفن هوكينج، من أن الذكاء الاصطناعي يهدد البشر، وتوقع تفوق الآلات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي على الإنسان، لكن رغم ذلك يبدو هذا التهديد بعيد المنال على الأقل في الوقت الراهن، لكن تكهنات كثيرة تشير إلى إمكانية «هيمنة تطبيقات الذكاء الاصطناعي» على العالم في غضون 10 أعوام. وربما يتسق توقع هوكينج مع سعي الأمم المتحدة إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وبالتحديد الهدف التاسع، والذي إذا ما تحقق بحلول عام 2030، كما تسعى المنظمة الأممية، فإن شبكة الإنترنت ستصل 2.9 مليار شخص لم يستخدموا الشبكة حتى الآن، ومن ثم سيصبح جميع السكان معرضين للذكاء الاصطناعي عبر إحدى وسائل التواصل. ويشير الهدف التاسع أهمية وصول البنية التحتية للاتصالات لجميع سكان العالم تقريباً، إذ  تبرز الأرقام أن 71% ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 يستخدمون الإنترنت، مقارنة بـ 57% من جميع الفئات العمرية الأخرى. على الصعيد العالمي، من المرجح أن يستخدم الناس في المناطق الحضرية الإنترنت مرتين أكثر من أولئك الموجودين في المناطق الريفية (76% في المناطق الحضرية مقابل 39% في المناطق الريفية). وبين عامي 2015 و2021، تضاعفت تغطية شبكة الجيل الرابع 4G لتصل إلى 88% من سكان العالم. وعلى الرغم من أن تقديرات عام 2021 تظهر أن 95 في المائة من سكان العالم مشمولون بخدمات شبكة الإنترنت عالية السرعة، فإن الفجوة لا تزال كبيرة بالنسبة لأقل البلدان نمواً والبلدان النامية غير الساحلية، حيث 17 في المائة من السكان بلا أي تغطية. وفي أقل البلدان نمواً، لا يتمتع 14 في المائة من سكان الريف بتغطية شبكة الهاتف المحمول على الإطلاق، في حين أن 12 في المائة أخرى لديهم تغطية شبكة الجيل الثاني فقط، بينما العالم حالياً وصل إلى شبكات الجيل الخامس 5G.