دينا محمود (لندن)
في أجواء احتفالية لم تشهدها المملكة المتحدة منذ سبعين عاماً كاملة، ووسط إجراءات أمنية مشددة، وبحضور أكثر من ألفيْ مدعو من مختلف دول العالم، تتوج بريطانيا اليوم ملكها تشارلز الثالث، بعد أكثر من ثمانية أشهر على تنصيبه من جانب مجلس العرش، خليفةً لوالدته الراحلة الملكة إليزابيث الثانية.
وتدشن مراسم حفل التتويج، الذي يُقام في كنيسة «وستمنستر آبي» في قلب العاصمة لندن، ثلاثة أيام من الاحتفالات، التي تتضمن فعاليات فنية، وأعمالاً تطوعية، دُعيَ مواطنو المملكة المتحدة والمقيمون على أراضيها، للمشاركة فيها.
زينات وحواجز
ووسط حالة تأهب قصوى وخطة أمنية وُصِفَت بالمعقدة لمواجهة أي تهديدات محتملة وحالة استنفار لخدمات الطوارئ، انتشرت خلال الأيام والساعات الماضية، في مختلف الساحات والشوارع الرئيسة بالعاصمة البريطانية، الزينات والرايات والملصقات المرتبطة بحفل التتويج.
كما رُصِدَ تكثيف لدوريات الشرطة على متن السيارات والدراجات النارية، لتأمين الحفل والضيوف ومواطني المملكة.
وقالت مصادر بريطانية مطلعة، إن قادة أجهزة الأمن والاستخبارات، راجعوا تفاصيل هذه العملية الأمنية، وأجروا تعديلات عليها بعد وفاة الملكة إليزابيث.
وفي إشارة إلى الولع البريطاني بالمسميات الرمزية، على غرار مصطلح «سقوط برج لندن»، الذي كان يمثل إشارة إلى إعلان وفاة الملكة إليزابيث الثانية في سبتمبر من العام الماضي، يحمل حفل التتويج المقرر اليوم وهو الأول من نوعه في المملكة المتحدة منذ تتويج الملكة الراحلة مطلع خمسينيات القرن الماضي، اسم «عملية الجرم السماوي الذهبي».
ويرتبط هذا المسمى على ما يبدو، بما يُعرف بـ «الجرم السماوي الملكي»، وهو أحد القطع الملكية التقليدية الشهيرة في بريطانيا، التي صُنِعَت عام 1661، وتتألف من كرة ذهبية مرصعة بالجواهر؛ يعلوها صليب مرصع بدوره بالأحجار الكريمة، وترمز إلى أن الملك أو رأس الدولة في المملكة المتحدة، يمثل السلطة الدينية والأخلاقية فيها.
مراسم مُستحدثة
وقبيل بدء المراسم، التي بدأ الترتيب لها منذ وفاة الملكة إليزابيث في خريف العام الماضي، أكد قصر باكنجهام الملكي، أنه على الرغم من أن تتويج الملك تشارلز، سيكون «وفقاً للتقاليد القديمة»، إلا أنه «سيعكس أيضاً دور الملك اليوم، والتطلع إلى المستقبل».
وبدا هذا البيان إشارة إلى المراسم المستحدثة، التي ستتضمنها احتفالات التتويج هذه المرة، ومن بينها الدعوة التي وُجِهَت لعموم الناس، لأداء قسم الولاء للملك وورثته وورثة العرش، وذلك للمرة الأولى على الإطلاق، في إطار ما وُصِفَ بـ «تكريم الشعب».
فبحسب بيان أصدره منظمو حفل التتويج، سيتسنى لـ «الناس أينما كانوا، سواء كانوا يشاهدون (المراسم) من المنزل بمفردهم، أو يشاهدون التلفزيون (وكذلك كل الحاضرين في الكنيسة)، أن ينضموا للقسم»، بعدما كان الأمر يقتصر في الماضي، على ما يُعرف بـ «إجلال الأقران»، الذي يشارك فيه أعضاء مجلس اللوردات، على الأرجح.
وللمرة الأولى أيضاً، ستشمل مراسم تتويج الملك تشارلز، البالغ من العمر 74 عاماً، الذي سيكون أكبر ملك يتولى العرش في تاريخ الأسرة المالكة ببريطانيا، استخدام لغات أخرى مرتبطة بالجزر البريطانية، إذ ستتضمن صلاة بالويلزية وترنيمة بالويلزية والجيلية الأسكتلندية والجيلية الأيرلندية، كما ستتمكن نساء أساقفة من المشاركة في المراسم.
ووفقاً لمصادر بريطانية، يشكل حفل التتويج، الذي ظلت مراسمه على حالها منذ أكثر من ألف عام ويُعد الحدث الوحيد المتبقي من نوعه في أوروبا بأسرها، علامة على إضفاء الطابع الرسمي على دور الملك كرئيس لكنيسة إنجلترا، ويؤشر كذلك على تغير ألقابه وسلطاته، باعتباره عاهلاً للمملكة المتحدة و14 بلداً آخر.
حفل أكثر بساطة
ومن المنتظر أن تكون مراسم تتويج الملك تشارلز المقررة اليوم، أقصر مدة وأضيق نطاقاً من تلك المراسم التي تُوِجَت في إطارها والدته عام 1953. فقد قُلِصت مدة حفل التتويج، إلى ساعتين وسيُجرى بحضور 2200 مدعو تقريباً، وذلك مقارنة بمراسم استغرقت ثلاث ساعات وحضرها ثمانية آلاف شخص، عند تتويج إليزابيث الثانية قبل سبعين عاماً.
ومن المتوقع أيضاً، أن يكون موكب التتويج، الذي سيستقل فيه الملك والملكة، عربة «اليوبيل الماسي» التي صنعت للاحتفال بمرور 60 عاماً على بدء حكم الملكة إليزابيث الثانية، وتم استخدامها لأول مرة سنة 2014، أكثر بساطة، من نظيره الذي شهده يوم وضع التاج على رأس الملكة الراحلة، والذي كان قد شارك فيه 16 ألف شخص، وامتد على طول سبعة كيلومترات تقريباً.
ويشكل ذلك الموكب، الذي سيمتد على نحو كيلومترين، بدءاً من قصر باكنجهام بوسط لندن إلى كنيسة «وستمنستر آبي»، نقطة انطلاق حفل التتويج، الذي سيبدأ في الساعة العاشرة من صباح اليوم بتوقيت جرينتش، بحضور أفراد العائلة المالكة في بريطانيا، بجانب رئيس الوزراء ريشي سوناك، وممثلين عن مجلسيْ العموم واللوردات، فضلاً عن شخصيات سياسية وأفراد عائلات مالكة أخرى من جميع أنحاء العالم.
ومن بين ضيوف الحفل، ممثلون عن 203 من دول العالم، فضلاً عن شخصيات دينية وأخرى تمثل المجتمع المدني، وفائزين بجوائز نوبل، بجانب 400 من منظمات خيرية مختلفة، ستتاح لهم فرصة مشاهدة مراسم التتويج وما يسبقها ويلحقها من فعاليات، من داخل كنيسة القديسة مارجريت المجاورة لـ «وستمنستر آبي».
فعاليات تقليدية
ووفقاً للجدول المُعلن لمراسم الحفل، تبدأ فعالياته بتقديم رئيس أساقفة كانتربري جاستن ويلبي للملك، وهو يقف بجانب كرسي التتويج، إلى المحتشدين في الكنيسة، قبل أن يؤدي «يمين التتويج»، الذي يقسم فيه على احترام القانون وكنيسة إنجلترا.
وسيجلس الملك تشارلز بعد ذلك على كرسي التتويج، الذي ستخفيه عن الأنظار، شاشة عملاقة ثلاثية الجوانب تُستخدم لهذا الغرض للمرة الأولى، ليتم إزالة ردائه عنه، حتى يتسنى لرئيس أساقفة كانتربري، مسح يديْه وصدره ورأسه بـ «زيت مقدس» تم إعداده وفقاً لوصفة لم يتم الكشف عنها، ولكنه يحتوي على الأغلب، على العنبر وزيت زهور البرتقال والورد والياسمين والقرفة.
يلي ذلك، منح الملك تشارلز «أدوات الدولة»، التي تشمل «الجرم السماوي الملكي»، وكذلك الصولجان الذي يمثل القوة، و»صولجان المُلك»، وهو قضيب من الذهب تعلوه حمامة مطلية بالمينا البيضاء، وترمز للعدل والرحمة، وأخيراً، يضع رئيس الأساقفة «تاج القديس إدوارد» على رأس الملك.
وبعد إتمام هذا الجانب من المراسم، يترك الملك تشارلز كرسي التتويج، وينتقل إلى كرسي العرش، حيث ينحني أعضاء مجلس اللوردات أمامه. ويعقب ذلك، مراسم أضيق نطاقاً، لتتويج الملكة كاميلا، قبل أن تعود والملك في موكب حاشد، إلى قصر باكنجهام الملكي، على متن «العربة الملكية الذهبية»، وهي أقدم عربة ملكية بريطانية، وعمرها نحو 260 عاماً، وقد استخدمت في كل مراسم التنصيب، منذ عهد الملك وليام الرابع عام 1831.
وبعد وصول الموكب، الذي سيصاحبه آلاف العسكريين البريطانيين بملابس احتفالية، إلى قصر باكنجهام، سيُطل أفراد العائلة الملكية من الشرفة الشهيرة للقصر، لتحية الحشود التي يُتوقع أن تتجمع أمامه، وكذلك لمشاهدة العرض الجوي الذي ستنظمه طائرات من سلاح الجو الملكي بهذه المناسبة.
مكاسب
في الوقت الذي لم يُكشف فيه بعد عن الميزانية المخصصة لمراسم التتويج التي ستُجرى خلال عطلة نهاية أسبوع طويلة تستمر ثلاثة أيام في بريطانيا، قال متحدث باسم قصر باكنجهام، إن هذه الفعاليات تسهم في إنعاش اقتصاد البلاد.
وقال المتحدث إن هناك تقارير تتوقّع أن تضخ المراسم والفعاليات التي تشمل كذلك حفلاً موسيقية في قلعة وندسور في غرب لندن، سيحضرها 10 آلاف بريطاني تمّ اختيارهم عشوائياً أكثر من مليار جنيه إسترليني (ما يوازي 1.25 مليار دولار) في شرايين الاقتصاد البريطاني، وذلك وسط توقعات بأن تصل التكاليف إلى مبلغ مماثل.
وتفيد بيانات نُشِرَت في بريطانيا، بأن حجوزات الرحلات الجوية القادمة إلى البلاد من الولايات المتحدة تحديداً، ارتفعت بنسبة 10 في المئة، مقارنة بمثيلتها خلال مايو من عام 2019، أي قبل أزمة تفشي وباء كورونا. كما تشير التقديرات إلى أن بيع حقوق البث التلفزيوني لحفل التتويج، إلى محطات البث التليفزيونية الأجنبية سيعود بإيرادات كبيرة بدوره.
وفي الوقت نفسه، أفادت مصادر أمنية بريطانية، بأن السلطات حشدت آلافاً من عناصر قوات الأمن من مختلف أنحاء المملكة المتحدة، لمواجهة «أي تهديدات، أو حتى محاولة لصوص ومجرمين تنفيذ أي مخالفات وجرائم وسط الحشود الكثيفة التي ستشارك في هذه المناسبة الاحتفالية».
وأشارت المصادر، إلى أن السلطات شددت خلال الأسابيع القليلة الماضية، عمليات المراقبة التي تستهدف «المتشددين»، فضلاً عن اعتزامها نشر عناصر شرطة مزودين بأسلحة نارية لحراسة المدعوين لحضور مراسم التتويج والشخصيات الأجنبية البارزة التي ستشارك في الحفل.
وشهدت ساعات ليل أمس، إجراء مسح أمني شامل، للطريق الذي سيسلكه الموكب الملكي، من قصر باكنجهام إلى كنيسة «وستمنستر آبي»، بما في ذلك أكشاك الهواتف ومكبات النفايات وغيرها، قبل أن تُغلق الطرقات وبعض محطات قطارات الأنفاق، في ساعات الصباح الأولى.
كما نشرت السلطات البريطانية قناصة على أسطح المنازل، والمباني الواقعة على مسار الموكب سواء خلال توجهه إلى الكنيسة أو عودته منها، بالإضافة إلى اعتزامها تسيير دوريات من عناصر الشرطة، سواء بالزي الرسمي أو على نحو سري، لتأمين الاحتفالات.
40 تتويجاً
تشكل كنيسة «وستمنستر آبي» الواقعة في قلب العاصمة لندن، المكان التقليدي الذي يشهد تتويج ملوك إنجلترا منذ نحو عشرة قرون. وسيصبح تشارلز الثالث، الملك البريطاني الأربعين، الذي يُتوج في هذه الكنيسة، منذ وليام الفاتح، الذي أقيمت مراسم تتويجه فيها، عام 1066. ولكن هذه القاعدة لم تخل من استثناءات بطبيعة الحال. فمبنى الكنيسة العتيق، ذو طابع العمارة القوطية، لم يشهد تتويج ملكيْن، هما إدوارد الخامس وإدوارد الثامن، الذي سبق أن تنازل عن العرش في ثلاثينيات القرن الماضي.
وفي عام 1953، كان هذا الصرح العملاق، واسمه الكامل «كنيسة القديس بطرس الجامعة، وستمنستر» على موعد مع تتويج الأميرة إليزابيث، التي أصبحت بعد جلوسها على كرسي التتويج حينذاك، الملكة إليزابيث الثانية.
وظهرت هذه الكنيسة التاريخية إلى الوجود، عام 960 ميلادية، كموقع دير، قبل أن تبدأ أعمال تشييد مبناها المهيب، بأوامر من الملك هنري الثالث عام 1245.
كراسٍ ملكية
من المقرر في لحظة تتويج الملك تشارلز الثالث، خلال المراسم المقررة اليوم، استخدام كرسي «سانت إدوارد» التاريخي، الذي صُنِعَ منذ أكثر من 700 عام. وسبق أن استخدم هذا الكرسي للمرة الأولى، عند تتويج الملك إدوارد الثاني في عام 1308. وبحسب تفاصيل مراسم التتويج، سيجلس الملك وقرينته الملكة كاميلا، في مراحل مختلفة من المراسم، على كراسٍ تاريخية أخرى .
وقال القصر إن الكراسي، التي ستُستخدم خلال الأجزاء الأولى من مراسم الاحتفال كانت قد صُنِعَت في الأساس، لتتويج والدة تشارلز، الملكة إليزابيث الثانية في عام 1953، في آخر مراسم تتويج شهدتها بريطانيا، قبل سبعين عاماً. بجانب ذلك، سيجلس تشارلز وكاميلا أيضا، على كرسييْ العرش، خلال الاحتفال. وكان هذان الكرسيان، قد صُنِعا خصيصا لتتويج الملك جورج السادس وزوجته الملكة إليزابيث، التي عُرِفَت فيما بعد باسم الملكة الأم، في عام 1937.
تيجان تاريخية
تشهد مراسم تتويج الملك تشارلز الثالث ظهور مقتنيات ملكية تاريخية، لم تظهر إلى العلن منذ عقود طويلة، وحُفِظَ الكثير منها في برج لندن. وعلى رأس هذه المقتنيات «تاج القديس إدوارد» الذي سيُوضع خلال الاحتفال على رأس الملك.
وصُنع هذا التاج، الذي لا يُستخدم إلا في احتفالات التتويج، بمناسبة تتويج تشارلز الثاني عام 1661، وقد حل محل نسخة من القرون الوسطى، يُعتقد أنها تعود إلى القرن الحادي عشر، كان قد تم صهرها في عام 1649.
أما عند مغادرته كنيسة «وستمنستر آبي» بعد انتهاء أولى مراسم الاحتفال بالتتويج، فسيضع الملك على رأسه «تاج الدولة الإمبراطورية».
وصُنِع هذا التاج عام 1937، لتتويج الملك جورج السادس والد إليزابيث الثانية، وهو مرصع بـ 2868 ماسة. أما الملكة كاميلا، قرينة الملك، فستضع تاج الملكة ماري، جدة إليزابيث الثانية، المرصع بـ 2200 ماسة.
ثياب جورج السادس
يرتدي ملك بريطانيا تشارلز الثالث خلال مراسم التتويج، ثياباً مخملية من الحرير القرمزي والأرجواني اللون، وهي ثياب سبق أن ارتداها جده الملك جورج السادس أثناء تتويجه عام 1937. وبحسب التفاصيل المتوافرة عن المراسم، يرتدي تشارلز وقرينته الملكة كاميلا اليوم، مجموعتين من الثياب خلال حفل التتويج؛ أولاها ثياب رسمية قرمزية عند الوصول، وأخرى أرجوانية لدى المغادرة، وهي كلها إما كانت محفوظة من قبل، أو مصنوعة من جانب شركة حياكة دشنت أعمالها في لندن منذ 334 عاماً، وتحمل اسم «إيدي آند رافنسكروفت». وحيكت الثياب الرسمية، التي سترتديها الملكة كاميلا خلال مراسم التتويج اليوم، في الأساس للملكة الراحلة إليزابيث الثانية، التي فارقت الحياة في سبتمبر من العام الماضي.
«حجر القدر»
يشكل «حجر القدر»، الذي يُعرف أيضاً بـ «حجر التتويج» أو «حجر سكون»، أحد الرموز الأساسية لمراسم التتويج المقررة اليوم في بريطانيا. والحجر كتلة مستطيلة بسيطة من الحجر الرملي الأحمر، غير منحوتة أو مزخرفة، ولا تحتوي حتى على أحجار كريمة أو نفيسة. رغم ذلك تحيط به الكثير من الأساطير التاريخية، ما جعله يُستُخدم منذ قرون في تتويج ملوك أسكتلندا؛ أحد الأقاليم الأربعة، التي تؤلف المملكة المتحدة، ومن المقرر أن يُعاد إلى هذا الإقليم بعد انتهاء المراسم. وقد ظل «حجر القدر» رمزاً للأمة والملكية الأسكتلندية لعدة قرون قبل نقله إلى بريطانيا. وفي 1996، وفي إطار الاحتفال بالذكرى السنوية السبعمائة لنقل الحجر من أسكتلندا إلى إنجلترا، تمت إعادته بموافقة الملكة الراحلة، حيث وُضِعَ في قلعة أدنبرة. ولكنه نُقِل مرة أخرى قبيل المراسم المقررة اليوم