القسم السياسي (أبوظبي)
مع دخول السلام بين الإمارات وإسرائيل شهره الثالث، منذ الإعلان التاريخي في أغسطس الماضي، إلى توقيع المعاهدة منتصف سبتمبر، تتواصل خطوات بناء الثقة، بعيداً عما وصفه سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي بـ«التفكير التقليدي» في مواجهة التحديات، والتركيز على الخطوات العملية الملموسة.
وإذا كانت معاهدة السلام وصفت بـ«التاريخية»، فإن بصماتها المستمرة تصنع حالياً التاريخ، وآخرها تمثل في زيارة سمو الشيخ عبدالله بن زايد الثلاثاء الماضي، النصب التذكاري لضحايا اليهود في أوروبا المعروف باسم «الهولوكوست» في برلين، متجولاً، ومتفقداً الجرائم الموثقة للنظام النازي، ومؤكداً أهمية ترسيخ قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر دون تمييز، ومشدداً على أن هذا الأمر الذي أسفر عن سقوط ملايين الأبرياء لن يتكرر مرة أخرى، وأن رسالة الإمارات على الدوام، رسالة سلام وتسامح وأمل للعالم أجمع.
سموه كتب بـ«العربية» في دفتر الزوار لمتحف النصب: «فخور بزيارتي للنصب التذكاري للهولوكوست، ذلك المكان الهام الذي يخلد ذكرى سقوط كوكبة من بني البشر ضحايا لدعاة التطرف والكراهية، ويؤكد في الوقت ذاته على قيم إنسانية نبيلة تدعو إلى التعايش والتسامح وقبول الآخر واحترام الأديان والمعتقدات كافة.. تلك القيم التي تأسست عليها بلادي وستظل دائماً محركاً رئيسياً لمسيرتها التنموية»، وأضاف: «تحية تقدير واعتزاز لأرواح ضحايا الهولوكوست، لتكن أرواحهم مرتبطة برباط الحياة الأبدية»، وختم قائلاً بالعربية والإنجليزية «لن يتكرر مرة أخرى» «never again».
الزيارة الأولى من نوعها عربياً، التي رافق فيها سموه من وصفه بـ«الصديق الجديد»، وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي، ومضيفهما وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، حملت الكثير من المعاني حول رؤية إمارات التسامح، للسلام مبدأ ونهجاً، بما في ذلك عودة الأمل للفلسطينيين والإسرائيليين للعمل من أجل حل الدولتين، ورؤية إسرائيل لـ«بداية عهد جديد للسلام بين الشعوب».
نهج استراتيجي
يقول المدير التنفيذي في «منتدى تعزيز السلم» خليفة مبارك الظاهري: «إن زيارة سمو الشيخ عبدالله بن زايد للنصب التذكاري لضحايا «الهولوكوست» في برلين، تشكل لفتة إنسانية جديدة، تؤكد على خيار التسامح والتعايش، الذي اختارته القيادة الرشيدة في الإمارات، وفق نهج استراتيجي إنساني طويل المدى، معتبراً أن المحرقة النازية التي راح ضحيتها نحو ستة ملايين يهودي، لا ذنب لهم سوى عقيدتهم الدينية تشكل وصمة عار على جبين الإنسانية في القرن العشرين، وكذلك عظة وعبرة لتذكير المجتمعات البشرية قاطبة بالأثمان الباهظة، التي يمكن أن يدفعها الإنسان، نتيجة الكراهية والأحقاد العنصرية، إذا ما استوطنت في النفوس البشرية.
ويضيف في تصريحات لـ«الاتحاد»: «حادثة شنعاء لن تتكرر أبداً كما أكد سموه، في سجل زوار النصب التذكاري، وأراد به أن يكون بمثابة دعوة للمجتمع الدولي، من أجل العمل معاً، بصدق وتفان وإخلاص، لتعزيز قيم التسامح، وترسيخ ثقافة السلام والوئام المستدام، حتى لا تتكرر مثل هذه الأعمال الوحشية، بحق أي كائن إنساني أو جماعة بشرية، مهما اختلفت أو تباينت معتقداتها، وهو ما تعمل عليه الإمارات دائماً، وتضع له قدراتها وإمكانياتها على مختلف الصعد».
ويتابع الظاهري: «إن مهندس الدبلوماسية الإماراتية، سمو الشيخ عبدالله بن زايد، يؤكد مرة أخرى، من خلال هذه الزيارة، عمق ثقافة التسامح والتعايش الإنساني، وأن الثقافة الإماراتية تجاوزت النمطيات الذهنية البائدة، التي تؤبد الأحقاد والكراهية الموروثة من عتمات الماضي البغيض، وأنها انطلقت إلى رحاب الإنسانية الأوسع، تحاور وتعانق مختلف الثقافات على تباين انتماءاتها الدينية والعقدية أو العرقية والقومية، بمحبة ومودة وتفاعل خلاق، والهدف بناء غد مشرق للأجيال المقبلة».
صناعة السلام
ويرى أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة الدكتور محمد البشاري، أن زيارة سمو الشيخ عبدالله بن زايد للنصب التذكاري لـ«الهولوكوست»، تأتي في إطار توجهات الإمارات التي تدعو إلى السلم والسلام انسجاماً مع تاريخها المؤصل في درب الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، الذي بنى الدولة على أسس ومبادئ كونية قيم السلم وعالمية السلام.
ويقول لـ«الاتحاد»: «ليس غريباً على سمو الشيخ عبدالله بن زايد، الإقدام على زيارة الهولوكوست، لأن ذلك يعتبر ترجمة عملية لهذا المكنوز الإنساني عند أبناء الشيخ زايد». ويضيف: «إن السلام في السياسة الرشيدة لأبناء الإمارات هو «صناعة»، وأي صناعة لنجاحها تتطلب مهنية وحرفية، وصناعة السلام تبدأ أولاً بالوقوف عند أخطاء التاريخ وفهم أسبابه، وتحليل نتائجه والنظر في مآلاته دون تبرير لأي عمل إجرامي قد يهدر من أرواح الأبرياء». ويستطرد قائلاً: «إن زيارة (الهولوكوست) تعبير عن المشاعر الصادقة للإمارات حكاماً وشعباً وحضارة وثقافة، في إدانة هذه المحرقة الشنيعة، و(من دون ولكن)، واعتبار المحرقة عملاً إرهابياً»، ويضيف: «إن المجتمعات المسلمة في الدول الأوروبية تعي أكثر مدلول هذه الزيارة لما لها من نتائج إيجابية في تصحيح الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين في الرأي العام الغربي، وما يمكن أن تساهم فيه الزيارة في تجسير الهوة الفكرية والحضارية بين المنظومة الإسلامية، والمنظومة الغربية، ولتحول كل ذلك إلى فرصة ذهبية لتحقيق العيش الكريم المشترك، وتفويت الفرصة على دعاة حتمية الصراع».