هذا الكتاب الذي سأتحدث عنه اليوم، قرأته أكثر من مرة، ولا أبالغ بأنني أستمتع في كل مرة أقرأه، فهو كتاب سهل ممتع ممتنع، واختصاره أمر صعب، ففيه من الرحلات التي تجعلك تحس بالغيرة من كاتبه، وبالنسبة لي هو من أجمل كتب السفر.
في كتابه «200 يوم حول العالم»، يأخذنا الكاتب الصحفي الراحل أنيس منصور في رحلة غنية ومثيرة تبدأ من الأراضي الأوروبية العريقة مروراً بآسيا الغامضة، يبدأ منصور مغامرته من لندن، حيث الضباب الكثيف والمعمار الفيكتوري يعانقان السماء، ثم ينتقل إلى باريس، المدينة التي تعبق بالفن والجمال والثقافة.
يسافر بعدها إلى الشرق، حيث يزور الهند، تلك البلاد التي تتنفس التاريخ، وفي الهند، يتعمق أنيس في فهم الديانات والتقاليد العميقة، ويصف بإعجاب شديد تعقيدات المجتمع الهندي وغناه الثقافي، يُسرد مشاهداته في مدينة بومباي بأسلوبه الرشيق، وكأنه يرسم لوحة فنية تخطف الأبصار.
تأخذنا الرحلة أيضاً إلى اليابان، حيث البساطة والتعقيد يجتمعان، معبراً منصور عن إعجابه بالنظام والتنظيم، ويقارن بين الحياة الصاخبة في الهند والهدوء المميز لليابان، يتناول أسلوب الحياة، والمأكولات التي تحتوي على ألوان ونكهات فريدة، وكذلك الفنون الجميلة التي تعبر عن روح اليابان.
تستمر رحلة أنيس منصور في «200 يوم حول العالم»، وهذه المرة يأخذنا إلى قلب أفريقيا وأميركا الشمالية، في أديس أبابا، يلتقط منصور الأنفاس بوصفه للمناظر الطبيعية الخلابة والثقافة الإثيوبية العريقة، يُعجب بالحفاوة والكرم الذي يُعامل به، وينقل لنا صورة حية عن الحياة في هذه المدينة الفريدة.
من أفريقيا، يطير بنا إلى البرازيل، حيث السامبا والكرنفالات التي لا تنتهي، يصف بحماس الأجواء المبهجة في ريو دي جانيرو، مُبرزاً تناقضاتها الاجتماعية بحساسية وعمق، ينقل لنا تجربته في مشاهدة كرنفال ريو مع تفاصيل الأزياء الملونة.
الآن نحن مع أنيس في نيويورك، المدينة التي لا تنام، ليسلط أنيس الضوء على الحياة العصرية والتقدم التكنولوجي، وأيضاً على العزلة والوحدة التي يمكن أن تشعر بها في مدينة بهذا الحجم، ليقدم لنا وجهة نظر فريدة عن «الحلم الأميركي» وتأثيره على الفرد.
«200 يوم حول العالم»، ليس مجرد سرد للرحلات أو تقرير عن الأماكن الجميلة فحسب، بل هو دعوة مفتوحة لفهم أعمق للإنسانية والتقارب بين الشعوب، من خلال أسلوب منصور الأدبي الخفيف والممتع، الذي يجعل القارئ مسافراً معه، ومتنقلاً بين السطور كما لو كان يتنقل بين المدن والقارات.
الكتاب في جوهره عبارة عن الحياة كما هي في مختلف أرجاء الكوكب، مليء بالعبر والقصص الملهمة، إنه دعوة لنا جميعاً لنرى العالم بعيون مفتوحة، لنتعلم من الآخرين ونقدم لهم ما لدينا من جمال وثقافة وفن.
في النهاية، يقدم لنا أنيس منصور متعةً لا تُنسى من خلال كتابة تعانق الروح والعقل، مؤكداً أن السفر بالقلم يمكن أن يكون بنفس قوة السفر بالأقدام، وبأسلوبه الفريد، يجعل منصور من السفر فنّاً وشغفاً، وليس مجرد تنقل بين الأماكن.