د. شريف عرفة (أبوظبي)
فهم العلاقة بين الصحة العقلية والبيئة الطبيعية، قديمة قدم الحضارة الإنسانية ذاتها. إذ تعد الحدائق الغناء ظاهرة عمرها آلاف السنين.. حيث نجد في كتابات الأقدمين ما يثبت اعتقادهم الراسخ بأن صحة الإنسان تتأثر بشكل إيجابي بقضاء الوقت في البيئات الطبيعية، حيث ينظر للصحراء أو الريف أو الغابات والجبال والمراعي والبيئات الطبيعية ذات البحيرات والمروج والواحات والأفق المفتوح …إلخ على أنها أماكن يمكن فيها للأشخاص التعافي عقلياً وجسدياً، لأسباب تتعلق بضوء النهار الطبيعي والهواء النقي والمساحات الخضراء. واستخدمت الحدائق في سياق الرعاية الطبية لفترة طويلة من الزمن، حيث تم بناء المشافي والمصحات في بيئات طبيعية جذابة من أجل الراحة النفسية للمرضى، الأمر الذي ما زال يحدث حتى اليوم.
هذا ما تستهل به الباحثة «أولريكا ك. ستيجسدوتر» وزملاؤها في كتاب «الغابات والأشجار وصحة الإنسان» بحثها عن دور الطبيعة في الصحة النفسية، وتطرح سؤالاً مهماً:
كيف تحسن الطبيعة صحتنا النفسية؟
ما الآليات التي تفسر هذه الظاهرة؟
وهو سؤال وجيه شغل العلماء، الذين أعطوا له أكثر من تفسير..
- التفسير الأول: نظرية استعادة الانتباه:
أي باختصار، الطبيعة تساعد في إراحة الذهن بعد تعاملهم مع كميات كبيرة من المعلومات والمحفزات المتنافسة في العمل والحياة. إذ إن الابتعاد عقلياً وجسدياً، والانتقال إلى مكان مختلف تماماً، يساعد على التفكير في أشياء أخرى غير مشاكل الحياة والعمل، وبالتالي يساعد على التعافي الذهني وتجديد النشاط الذهني.
- التفسير الثاني: النظرية الجمالية العاطفية:
أي أن جمال الطبيعة يزيد مشاعرنا الإيجابية تلقائياً، فيقل هرمون التوتر وبالتالي تتحسن صحتنا الجسدية. والسبب - حسب هذه الفرضية - أن البشر لديهم ميل فطري غريزي للتواجد في الطبيعة، حيث كانت البيئات الطبيعية ذات أهمية حاسمة للبقاء خلال معظم تاريخنا التطوري. تعطينا الطبيعة شعوراً غير واعٍ بالأمان، لأن الموطن الأصلي للإنسان العاقل - حسب علماء الحفريات - كان في السافانا، بالقرب من الماء، ومن الواحة الآمنة التي تنقذنا - رمزياً وفعلياً - من التوتر والقلق.
فوائد اقتصادية
التعرض للطبيعة مفيد نفسياً وبدنياً، لدرجة أنه مفيد اقتصادياً للدولة! ففي دراسة بريطانية تحمل عنوان «التدخلات القائمة على الطبيعة والتدخلات بين العقل والجسم: توفير تكاليف الصحة العامة مع زيادة الرضا عن الحياة والسعادة» وجد الباحثان «جولز بريتي» و«جو بارتون» أن الأنشطة التي تتم ممارستها في الطبيعة «مثل التنزه في الغابات، والبستنة العلاجية، والتأمل في الحدائق…» يحسن الصحة النفسية، ويقي من اضطراباتها لدرجة توفر على الدولة تكاليف الرعاية الصحية، لكل فرد بما مقداره بين 830 إلى 31.520 جنيهاً استرلينياً (بعد عام واحد) وبين 6450 إلى 11.980 جنيهاً استرلينياً (بعد 10 سنوات). حيث إن هذه الممارسات تساعد في زيادة الرضا عن الحياة/ السعادة بمقدار أكبر من العديد من أحداث الحياة الإيجابية (مثل الزواج أو ولادة طفل جديد) على مدار عقد من الزمن!
التعافي في الظروف الصعبة
في دراسة تحمل عنوان «تعزيز الرفاهية المستدامة من خلال التدخلات القائمة على الطبيعة للشباب في المواقف غير المستقرة: الآثار المترتبة على العمل الاجتماعي.. مراجعة منهجية» وجد الباحثون «جيمس كوتو أوبينج، وزملاؤه» أن التعرض للطبيعة مفيد حتى للشباب الذين يعيشون ظروفاً صعبة تجعلهم أكثر عرضة للاكتئاب والقلق والجنوح، مثل اليتم والبطالة والمشاكل الاقتصادية والصحية وصعوبات التعلم..إلخ
نتائج إيجابية
يقول الباحثون إن ممارستهم برامج رعاية اجتماعية تشمل أنشطة مثل رعاية حيوان، أو الزراعة، أو التأمل والتريض في الطبيعة..إلخ تؤدي إلى نتائج إيجابية مفيدة لهم رصدتها دراسات عديدة.. مثل تحسن في الصحة العقلية والمشكلات السلوكية، وزيادة احترام الذات والشعور بالهدف، وتحسين مهارات المرونة والتكيف، والشعور بالانتماء للمجتمع، وإعادة الانخراط في التعليم والتوظيف أو التدريب المهني.
باختصار، العلاقة بيننا وبين الطبيعة معقدة وقديمة قدم ظهور الإنسان على الأرض.. بل إنها أكثر رسوخاً وعمقاً في نفسك، من علاقتك بكل ما يحيط بك في المكان الذي توجد فيه الآن!