لندن (الاتحاد)
قبل عصر السوشيال ميديا والانتشار الفيروسي للأخبار، سواء كانت أخباراً حقيقية أو بديلة أو مفبركة، كان «الاعتذار»، كفضيلة إنسانية، طقساً عادياً للغاية، يمارسه البعض من حين إلى آخر، اعترافاً بالمسؤولية، أو تكفيراً عن أخطاء، حتى تلك التي لم نرتكبها أحياناً. كان المجتمع في العادة ينظر للاعتذار وأصحابه بقدر أكبر من الاحترام والتقدير مهما كانت دواعيه، بل كان يعتبره كثيرون مظهراً للتحضر والالتزام الأخلاقي، ومدعاة لبداية جديدة، يستكمل بعدها المعتذرون مسيرة حياتهم من دون إزعاج.
لكن، بعد تويتر وفيسبوك وإنستغرام، صار الأمر مختلفاً تماماً، خاصة عندما يكون أصحاب الاعتذارات مشاهير، نجوم بارزون في عوالم السياسة والفن والرياضة. هنا يتحول الاعتذار للرأي العام إلى مادة حارقة تشعل ناراً تتسع دوائرها عبر منصات التواصل الاجتماعي قبل أن يرتد إليك طرفك. وبدلاً من أن يحصد صاحب الاعتذار بعض التسامح والغفران، يكتشف أنه زاد الطين بله أو كما يقول المثل الشعبي: (حاول أن يكحلها فأعماها). والسبب.. الخوارزميات الشريرة التي صارت بمثابة التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان.حديثاً، كشف الدراسات أن تلك الخوارزميات التي تتغذى على كل ما هو سلبي في الفضاء الإلكتروني، تعمد إلى تضخيم ونشر وبث كل ما هو مسيء، خاصة عندما يعتذر عنه أصحابه.
تقول خبيرة «اتصالات الأزمات» مولي ماكفرسون: إن العواصف الجامحة التي تجتاح منصات التواصل الاجتماعي بعد أي بيان اعتذاري، قد تلقي بظلال قاتمة على سمعة «المعتذرين» سواء كانوا شخصيات معروفة أو علامات تجارية شهيرة أو شركات كبرى، كما أن «الاعتذارات السيئة دائما ما تزيد الأمور سوءاً»، بحسب تعبير مارجوري إنغال، المؤلفة المشاركة لكتاب «آسف، آسف، آسف: الاعتذارات الجيدة».
إذن المبادرة للاعتذار لا تضمن في حد ذاتها نهاية سريعة للأزمة أو خلاصاً أبدياً من خطأ تم ارتكابه.. بل إن الأمر على النقيض تماماً.. والسبب هو السوشيال ميديا وهوس المستخدمين الذين يشعلون على شتى المنصات ما يشبه المحرقة لصاحب الاعتذار وأهله ومعارفه، خاصة عندما يكون نجماً لامعاً.
لذلك، تقول الكاتبة إليانور هوكنز في موقع أكسيوس: «إذا لم تكن آسفاً فلا يجب أن تعتذر لأنك ستجعل الأمور أسوأ بكثير إذا اعتذرت بشكل سيئ». وتشير إلى أن
الباحثين الأميركيين بمؤسسة Public Apology Central فحصوا نحو 1.688 اعتذاراً علنياً صدرت خلال السنوات الـ 70 الماضية، ووجدوا أن الاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة والتأكيد على الأعمال الصالحة هي الخيوط الأكثر شيوعاً في أي اعتذار.
وتكشف الأبحاث أن هناك ارتباطاً كبيراً بين ما يقرؤه رواد السوشيال ميديا وبين ما يبثونه عبر منصاتها من تعليقات.
كل إناء ينضح بما فيه
وجدت دراسة أجريت عام 2014 من جانب الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم، قبل خوارزميات TikTok ، أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين «شاهدوا محتوى سلبياً في الغالب أنتجوا المزيد من المشاركات السلبية وعدداً أقل من المشاركات الإيجابية». ومن ثم فإن أولئك المليئة قلوبهم بالكراهية سينشرون مشاعرهم السلبية، وسيؤججون نيران الكراهية، لذلك يتعين على كل من سيصدر اعتذاراً أن يحسب خطواته جيدة. إذ لا بد أن يكون لديه الاستعداد الكافي لتقديم كل الإيضاحات أو الاعترافات بشأن ما حصل، كما تقول خبيرة «اتصالات الأزمات» مولي ماكفرسون، وهي تحذر من أن الامتناع عن الاعتذار، عند الضرورة، سيورط المخطئين أكثر فأكثر.
«آسف».. البريطانيون أبطال العالم
بالأرقام، يتصدر البريطانيون شعوب العالم في «الاعتذار». إنهم الأبطال بلا منازع. تعترف هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» : يشتهر البريطانيون بعدد المرات التي يقولون فيها «آسف» - حتى عندما لا يكونون مخطئين. وهذا حقيقي بدرجة كبيرة. ينطبق ذلك على عامة الناس وعلى السياسيين والمشاهير عموماً.. وتجد الميديا البريطانية في ذلك فرصة ثمينة لا تفوتها أبداً في كل مرة يعتذر نجم لامع مهما كان مجال عمله. ووجدت دراسة حديثة شملت أكثر من 1000 بريطاني أن الشخص العادي يقول «آسف» حوالي ثماني مرات في اليوم - وأن واحداً من كل ثمانية أشخاص يعتذر حتى 20 مرة في اليوم.
و«آسف» ربما تكون الكلمة الأكثر استخداماً في المملكة المتحدة: سواء كانوا آسفين بشأن الطقس أو آسفين لأن شخصاً آخر قد اصطدم بهم، فمن المحتمل أن يكون البريطاني العادي قد قدم اعتذاراً واحداً على الأقل في الساعة أو الساعتين الماضيتين، حسبما تقول «بي بي سي». يعلق على ذلك بطرافة هنري هيتشينجز في كتابه الذي يحمل عنواناً مناسباً «آسف!: الإنجليز وعاداتهم»، بقوله: «إن استعداد الإنجليز للاعتذار عن شيء لم يفعلوه أمر رائع، ويقابله عدم رغبة في الاعتذار عما فعلوه».
أما الأميركان، فقد وجد استطلاع أجرته مؤسسة يوجوف أن 24% منهم يعتذرون عن أشياء خارجة عن إرادتهم يومياً على الأقل، بما في ذلك11% يقولون إنهم يفعلون ذلك مرات عدة في اليوم، فيما يقول 16% من البالغين إنهم لا يعتذرون أبداً عن أشياء خارجة عن إرادتهم.
وكشف الاستطلاع أنه بين البالغين الأصغر سناً، ينظر إلى دافع الناس لقول «أنا آسف» استجابة لمشاكل شخص آخر أو مواقف أخرى خارجة عن إرادتهم على أنه متعاطف في كثير من الأحيان أكثر من كونه مزعجاً، ولكن بين الأميركيين الأكبر سناً، فإن العكس هو الصحيح.
وفي استطلاع أجرته يوجوف في بريطانيا والولايات المتحدة عام 2016 شمل أكثر من 1600 بريطاني و1000 أميركي، تبين أن هناك ما يقرب من 15 «آسفاً» بريطانياً مقابل كل 10 أميركيين إذا عطسوا، أو إذا صححوا خطأ شخص ما، أو إذا اصطدم بهم شخص ما.
كيف تعتذر باحتراف لتعبر الأزمة بأمان؟!
تقدم الكاتبة إليانور هوكنز في موقع أكسيوس مجموعة نصائح عملية لضمان نتيجة إيجابية لأي اعتذار علني على السوشيال ميديا، على الرغم من تأكيدها على عدم وجود وصفة موحدة للاعتذار المثالي تناسب الجميع.
وتلخصها في النقاط الآتية:
1- يتعين بدء الكلام بعبارات آسف واضحة ومباشرة مثل: «أعتذر عن...» أو «أنا آسف لـ...»، ثم يتم توضيح حقيقة ما جرى.
2- لا تختبئ وراء كلمات الدعاية المنمقة أو المتحدث الرسمي. يجب أن يكون الاعتذار صادقاً.
3- لا بد أن يتأكد الجمهور من أنك تفهم الخطأ الذي حدث، ثم استمع ودع الآخرين يعالجون الحادث.
4- توقع أسئلة المتابعة المحتملة واستعد لمعالجتها وجهاً لوجه.
5- لا تحاول إلقاء اللوم على الآخرين أو اختلاق الأعذار.
6- لا تتهرب من المسؤولية.
7- أوقف نشاطك على السوشيال ميديا حتى تصدر بيان الاعتذار.
يسهم ما سبق، في حماية سمعتك وأهدافك التجارية على المدى الطويل، ولو حتى تعرضت لبعض اللكمات أو الكدمات على المدى القصير في السوشيال ميديا، بحسب ستايسي زولت هارا، رئيسة شؤون الشركات العالمية في Airwallex، التي تؤمن بأن «الجريمة في كثير من الأحيان ليست الأزمة نفسها - بل إنها طبيعة التعامل مع الأزمة».
أرشيف كامل.. للمعتذرين وتقنياتهم
Public Apology Central هي أفضل بوابة في الولايات المتحدة تقدم بالتفاصيل الاعتذارات العلنية التي قدمها مشاهير وشخصيات بارزة من السياسيين والرياضيين والمنظمات والزعماء الدينيين والشخصيات الإعلامية ورؤساء الدول والمواطنين العاديين. وتشمل المادة الأرشيفية نصوصاً مكتوبة ومقاطع فيديو وتسجيلات صوتية لنحو 1.688 اعتذاراً علنياً خلال السنوات الـ 70 الماضية.
تقول البوابة أن أبطال هذه الاعتذارات استخدموا مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات الدفاعية. ويشمل ذلك مثلاً الإنكار («لم أفعل ذلك»)، أو تحويل اللوم («لقد فعل أحدهم ذلك»)، أو التقليل من شأن ما جرى («لم يكن الأمر بهذا السوء»)، أو التذلل («أنا آسف»)، بجانب الإنكار واتهام الآخرين وتوريط شركاء أو ادعاء حسن النية. وتلتزم البوابة الحياد التام إزاء الوقائع التي تعرضها وتقول إن هدفها تعليمي فقط وغرضها الأساسي تسليط الضوء على الاستراتيجيات الأساسية التي يستخدمها الأشخاص المتهمون بارتكاب أخطاء من دون أن تتبنى تقييمات محددة أو تصدر أحكاماً بشأن الادعاءات الموجهة إليهم.