الفاهم محمد
جدل كبير رافق، في الشهور المنصرمة، ظهور مجموعة من الأطعمة المخلوطة بالبروتينات الحشرية، مثل المعجنات وشرائح البطاطا والحلويات وغيرها. تناقلت مجموعة من القنوات الإخبارية هذا الموضوع. بعض المتتبعين استهجنوا الأمر واعتبروه إخلالاً بالذوق العام. أما البعض الآخر فقد أكدوا أن هذه «البروتينات الحشرية» ستصبح هي طعام المستقبل، وسيتم تعميمها على نطاق واسع. فهل هذه الأطعمة الجديدة مجرد تقليعات للموضة التي تدفع بها الشركات نحو الأسواق من أجل الرفع من مبيعاتها؟ أم أن الأمر أكثر جدية من ذلك، إذ تفرضه حتمية ضرورية يجب الوقوف على أبعادها ومضامينها؟
منذ انتشار العولمة أصبحت موائدنا تعتمد بشكل متزايد على الوجبات السريعة، وعلى اللحوم الحمراء والمعلبات. وهذه كلها منتجات تحتوي الكثير من المنكهات والمضافات الكيميائية. إننا نعلم جميعاً ما أحدثه هذا النمط الغذائي من مضاعفات صحية، مثل السمنة والسكري والسرطانات وأمراض ارتفاع الضغط.. إلا أن تأثير اللحوم الحمراء لا يطال فقط الجانب الصحي، بل يشمل كذلك الجانب البيئي. إن كلفة إنتاج اللحوم الحمراء عالية جداً، إذ تتطلب مياهاً كثيرة ومراعي واسعة، إضافة إلى الانبعاثات الغازية التي تصدر عنها، وكمية الطاقة التي تتطلبها.
وفرة متزايدة
الأسواق مليئة بالبضائع، وشاحنات التصدير والاستيراد لا تكاد تتوقف عن العمل. فبأي معنى نتحدث عن أزمة الطعام في العالم؟ قد نكون اليوم نعيش الوفرة المتزايدة في العروض الخاصة بالأغذية، غير أنها وفرة عابرة تنذر بزوال سريع. إن التهديد بالمجاعة يعود إلى أمرين أساسيين:
أولاً: الانفجار الديموغرافي الهائل، الذي سيشكل حتماً ضغطاً متزايداً على الموارد الطبيعية.
ثانياً: الأزمة المناخية المرتبطة بالاحتباس الحراري الذي جعلنا نعيش حالة طوارئ على المستوى العالمي.
لكل هذه الاعتبارات نقول بأن الطريقة التي سنأكل بها، وما سنأكله غداً، هو ما سيحدد مستقبل الأرض. ولا شك أن الثورة التكنولوجية التي نعيشها اليوم، تعدنا بإحداث ثورة غير مسبوقة في مجال الزراعة، تمكننا من اجتياز هذه المرحلة الانتقالية بنجاح. نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، المحاصيل التي تتكيف مع الجفاف، وتلك التي تحتاج إلى كميات قليلة من الماء. لا بل إنتاج أنواع جديدة من الأطعمة. يمكننا التأكيد إذن، أنه إذا كانت الحقول هي التي تحكمت فيما مضى، في منتجاتنا الغذائية، فإننا اليوم نشهد تحولاً جذرياً في هذه الوضعية، إذ أضحت المختبرات تحل محل الحقول. لدينا اليوم علم آخر يأخذ مكان علم الزراعة ويأخذ منه الريادة وهو علم الهندسة الحيوية. ماهي إذن هذه الأطعمة الجديدة التي يعدنا بها هذا العلم في المستقبل؟
أطعمة المستقبل
- اللحوم الاصطناعية: تعتبر شركة هويرا Heura الإسبانية، إحدى أهم الشركات التي تشتغل في مجال صناعة اللحوم الاصطناعية، وهي لحوم مصنعة في المختبرات، عبارة عن بدائل للبروتينات الحيوانية، تعتمد بالأساس على البروتينات النباتية بنسبة 100% بالخصوص الفاصوليا والبازلاء والأرز البني. إنها لحوم لا يمكن تمييزها عن اللحوم الطبيعية، بحيث يمكن شيّها وقليها دون أن تفقد طعمها أو لذتها.
تعتبر كذلك منظمة نيو هارفيست New harvest أول منظمة متخصصة لدعم الأبحاث في مجال اللحوم الاصطناعية. كما بدأ هذا النوع من اللحوم يحظى باهتمام أكبر، خاصة بعد أن تمت الإشارة إليه في كتاب بيل غيتس «كيف تتجنب كارثة مناخية»، حيث أكد هذا الأخير أنه لا بد من اعتماد اللحوم الاصطناعية، إذا ما أردنا بالفعل التخفيف من الانبعاثات الغازية.
- اللحوم المستنبتة: ينبغي التمييز بين اللحوم الاصطناعية، واللحوم المستنبتة. فإذا كانت الأولى عبارة عن لحوم مكونة أساساً من البروتينات النباتية، فإن الثانية هي لحوم حقيقية، إلا أنها صادرة عن المختبرات، ولا تحتاج لذبح الحيوانات. تقوم اللحوم المستنبتة على زراعة البروتينات انطلاقاً من الخلايا الحيوانية.
- الأغذية المعدلة جينياً: وهي كل الأطعمة سواء كانت نباتية أو حيوانية، التي تم إدخال تعديلات على حمضها النووي، عن طريق الهندسة الوراثية، مما يجعلها تكتسب سمات جديدة، تمكنها من مقاومة الأمراض والمبيدات الحشرية، أو من أجل الزيادة في قيمتها الغذائية. بصفة عامة لا يزال هناك جدل واسع في العالم اليوم، حول مدى ملاءمة هذه الأطعمة لصحة الإنسان، خاصة منها الأطعمة ذات المصدر الحيواني، إذ نجد بعض الدول تمنعها تماماً، بينما دول أخرى تسمح بها بنسب محددة. بل إن الجدل يشمل أيضاً الإشارة إلى أضرار البذور المعدلة جينياً على البيئة.
- البروتينات الحشرية: من الناحية العلمية تعتبر الحشرات، أكبر مصدر للبروتينات. إذ تفوق نسبتها في بعض الأنواع 65% مقارنة مع الأبقار التي تبلغ 50% وهكذا إذا كانت كلفة تربية المواشي جد مرتفعة، فإن الحشرات يمكن أن تكون بديلاً قوياً. تميل أغلب الشركات اليوم إلى اعتماد مسحوق الحشرات، الذي يتم خلطه مع الدقيق أو المعجنات، من أجل تجاوز الاشمئزاز، والحفاظ على متعة الأكل.
- أطعمة النباتات البحرية: أصبحت العوالق النباتية، والطحالب الحمراء، والأعشاب البحرية، تعرف اليوم أكثر فاكثر كمصادر غذائية غنية بالفيتامينات والمعادن كما أنها قليلة الدهون، لذلك يمكن استغلالها في إعداد السلطات أو الحساء أو غيرها من الاستعمالات. إن إيجابيات النباتات البحرية، هو أنها سهلة الزراعة وتتكاثر بسرعة، كما أنها لا تحتاج لعناية كبيرة كما هو الحال في الزراعة التقليدية.
نحو أذواق جديدة
إنه نوع آخر من الانتقالات التي تنتظرنا في المستقبل. الانتقال من نمط حياة استهلاكي، إلى نمط حياة مغاير، يقوم على الاستدامة والرغبة في الحفاظ على الكوكب. إن أهم صعوبة تعترض هذا الانتقال، ترتبط بالقدرة على تغيير عاداتنا الاستهلاكية ونمط تغذيتنا. بطريقة أخرى نقول بأننا سنضطر في المستقبل القريب، إلى تغيير ما اعتدنا على أكله لآلاف السنين.
هل سننجح في تغيير عادات أكلنا؟ تخبرنا الأنثروبولوجيا أن السلوك الثقافي، يكون مترسخاً في الذات البشرية، ولكنه على أي حال ليس سلوكاً ثابتاً يستحيل تغييره. على سبيل المثال نلاحظ اليوم عبر العالم، كيف أصبحت المطابخ التقليدية تتغير وتنفتح على وصفات جديدة. فالكثير من الوجبات تجاوزت الحدود الضيقة لمحيطها المحلي كي تصبح معولمة. وإذن من دون شك من المنتظر أن يغير البشر عاداتهم الغذائية، خاصة تحت ضغط الإكراهات التي تفرضها علينا الايكولوجيا. فعندما يكون ما نأكله يؤثر بشكل حاسم على مصير الأرض ومصير الأجيال القادمة يصبح من اللازم تغيير أذواقنا وموائدنا. هذا التغيير سيكون بالتأكيد من النظام اللاحم carnivore إلى النظام النباتي herbivore مع التأكيد على أن هذا التحول لا يعني بتاتاً، أن الإنسان سيتخلى نهائياً عن أكل اللحوم، ولكن بالأحرى عقلنة هذا الاستهلاك، بما يحفظ صحة الإنسان وصحة التوازنات البيئية.
إذا كان النظام الغذائي المعتمد اليوم يدمر النظام البيئي، ويعمل كذلك على الإضرار بصحة الإنسان، فإن الأمل كل الأمل هو أن يكون طعام الغد آمناً بشكل كلي، وهذا أمر لن نكون متأكدين منه، إلا إذا رافق ظهور هذه الأطعمة الجديدة، دراسات مستفيضة تثبت سلامتها للجانبين البيئي والصحي.