يخطئ كثير من الناس، إذ يعتقدون أنهم يسيطرون على عقولهم وأفكارهم وتصرفاتهم بشكل كامل. يكون هذا الاعتقاد صحيحاً، إذا استطعت أن تقرر أحداث الحلم الذي ستراه هذه الليلة! هناك جانب عظيم لا يستهان به في عقولنا، أشبه بصندوق مغلق شديد الإحكام، يجمع علماء التحليل النفسي أنه يفوق في قوته وسطوته على تصرفاتك أضعاف تأثير عقلك الواعي. وتتواتر الأدلة التجريبية الحديثة على هذه الفكرة، بدءاً من تجارب رسم المخ التي وجدت أن قرارك الواعي يحدث في مخك مسبقاً قبل أن تعيه، أو تجارب إيهامك بأنك قد اتخذت قراراً ما فتجد نفسك تدافع عنه رغم أنك لم تتخذه أصلاً.. وكأن العقل الواعي دوره تسلم القرار وتبريره بالحجج المنطقية وكأنه قد اتخذه بمحض إرادته.
الحقيقة أن العقل الباطن، اللاواعي، اللاشعور، أو أياً كان اسمع.. هو بلغة العلم الحديث ليس إلا الآليات البيولوجية البدائية الموجودة في أدمغتنا وتساعدنا في اتخاذ قرارات سريعة تحافظ على البقاء والحفاظ علي النوع.. آليات بدائية توارثناها من أسلافنا منذ ما يربو عن الثلاثمائة ألف سنة هي عمر أول حفرية لنوعنا البشري المعاصر «الهوموسيبيان».. العقل اللاواعي ما هو إلا آلية «الطيار الآلي» التي تفعلها أمخاخنا لاختصار الوقت واتخاذ قرارات سريعة بدلاً من استهلاك الطاقة في التمحيص في البديهيات.. لكن أتعرف ما المشكلة؟ أن هذه البدهيات لم تعد كذلك بعد أن تغير الزمن!
لآلاف السنين، يفضل المخ الابتعاد عن الخطر وممارسة ما هو معروف ومألوف.. التغيير خطر.. هذه صافرة إنذار عقلية ساعدن في بقاء نوع بشري عاش في غابات السافانا وسط الوحوش والضواري.. لهذا تجد في نفسك مقاومة داخلية إن طلبت منك الذهاب لمناسبة اجتماعية لا تعرف فيها أحداً. مجرد تخيل هذا الموقف يورث في أعماقك شعوراً بعدم الارتياح. رغم أنك لو نظرت لأمر بعين المنطق ستجد أن هذا الخروج من منطقة الراحة يوسع دائرة علاقاتك المهنية والإنسانية بشكل عام وهذا مفيد. لكن المخ يسارع بإطلاق الإنذار العتيق الذي يتردد صداه عبر آلاف السنين، في غير سياقه.
هل تريد أن تأكل البيتزا والدوناتس كل يوم؟ يسيل لعابك لهذه الفكرة، لأن العقل اللاواعي مفطور على طلب هذه اللذات.. لأنها - في صورتها البدائية في الطبيعة - تساعد في البقاء والحفاظ على النوع.. هذا الدسم يمدك بالطاقة اللازمة للنجاة.. والكسل والتسويف يوفر الطاقة لمهام أكثر إلحاحاً ومصيرية.. ومخك ما زال يظن أنك تصارع الجفاف وشح الموارد في حقول السافانا! هكذا يمكنك فهم آليات العقل الباطن لو تحدثنا بلغة علم النفس التطوري..
اليوم لم يعد النجاح في الحياة معتمداً على هذه الآليات.. بل بالعكس.. يتطلب مغالبتها والسيطرة عليها..
فكيف نفعل هذا؟
لنتحدث عن هذا الموضوع في الأسبوع القادم..