نيويورك (الاتحاد)

تغيرات كثيرة شهدتها صناعة الإعلام منذ بداية القرن 21، مع تطور التكنولوجيا، غير أن أحد أهم تجلياتها هو «البودكاست» الذي يحتفي هذا العام بمرور 20 عاماً بالضبط على انطلاقه كالصاورخ في فضاء الميديا بالعالم. ظهر تعبير البودكاست للمرة الأولى عام 2004 في مقال بصحيفة الجارديان للكاتب بن هامرسلاي، عندما أراد أن يصف الملفات الصوتية التي كانت قد ظهرت قبل عام، وأخذت طريقها في الانتشار بصورة ملحوظة.
غيّرت تلك الملفات بالعقدين الماضيين المشهد الإعلامي في العالم.. رسخت نفسها قناة جديدة للتواصل بين أصحاب المحتوى وبين الجمهور.. صيغة أكثر مرونة من الراديو. تتجاوز حدوده الضيقة وتحطمه، وتعيد تشكيله..  لكنها لم تلغه أو تقضي عليه.. الجمهور أصبح ضخماً للغاية ومتطلباته بلا حدود ، لذلك لا تلغي الميديا بعضها بعضاً.. بل هي خيارات عديدة تصب في مصلحة الجميع : الجمهور الباحث عن محتوى عبر قنوات متعددة .. وأصحاب المحتوى الباحثين عن جمهور يمكنه متابعتهم وفق جدولهم اليومي..
كسرت البودكاست قاعدة التوقيت.. أصبح الجمهور يسمع ما يحب وقتما يحب.  
تقول الكاتبة في الجارديان راشيل أروستي إنه منذ إصدار البودكاست الأول، قلب التطبيق قواعد الثقافة الشعبية في الغرب بطرق غير متوقعة لا حصر لها. لقد أحدث ثورة في الكوميديا الارتجالية، ومنح زخماً هائلاً للسرد القصصي عبر الدراما والأفلام الوثائقية.
ولا يزال البودكاست وسيلة شابة نسبياً، فالعشرين عاماً، ليست عمراً طويلاً في عالم الإعلام، ما يجعل اللحظة الحالية بالنسبة للبودكاست، تشبه الستينيات بالنسبة للتلفزيون.
كانت البداية بالتحديد في صيف 2003 مع برنامج «المصدر المفتوح» للصحفي كريستوفر ليدون الذي كان يناقش فيه السياسة والثقافة. يعتبر البرنامج على نطاق واسع أول بودكاست على الإطلاق، مع أن صاحبه، وهو صحفي سابق في صحيفة نيويورك تايمز والإذاعة الوطنية العامة، لم يطلق عليه تسميه البودكاست. في الواقع صاغ المصطلح في العام التالي الصحفي بن هامرسلي في  مقال بالجارديان.
تقول زميلته الصحفية راشيل أروستي : «أنا واحدة من 20 مليون شخص في بريطانيا يستمعون للبودكاست.. أنا  أستمع إليها أثناء التنظيف، والطهي، والأكل، والمشي، وفي الحافلة، والاستحمام». وتضيف «هذا الشكل الجديد من القنوات الإعلامية غير بمهارة الحياة اليومية للملايين. بالنسبة للكثيرين منا، أصبح البودكاست رفيقاً دائماً، مما يعزز العلاقات شبه الاجتماعية، ويعرضنا لمحادثات صريحة ويجعلنا نكتشف قصصاً مثيرة وأحياناً غريبة للغاية».
فتح البودكاست بالفعل أمام الجمهور عوالم غير عادية بلا حدود.. لم يكن من الممكن أبداً الوصول إليها عبر الإذاعة أو التلفزيون ولا حتى بالصحافة. 
يكمن سر الانتشار في المحتوى الجديد ومرونة التكنولوجيا، كما أن الجمهور اكتشف كيف يمكن أن يصنع المحتوى الذي يحبه، من هنا نشأت تلك العلاقات الحميمة بين صناع البودكاست وجمهوره.
في الوقت نفسه، استقطب البودكاست جمهوراً جديداً وعريضاً لم يكن يجد نفسه بسهولة في الإذاعة وبرامجها خارج حدود السيارة.. اتساع نطاق الحياة وتعقدها والتحولات الصاخبة في العصر الحديث، جعلت أيضاً ظهوره حتمياً.. لقد ظهر جيل جديد من منتجي المحتوى.. أغلبهم هواة أو محترفون في مجالات عملهم.. منحهم البودكاست بسهولة نافذة كبيرة على جمهور متعطش لنوع جديد من الخبرات والتجارب والمعارف.
كان الجمهور الجديد يريد الاستماع إلى حقائق جديدة، مختلفة، تثري معارفه، أكثر مما تسليه. وكما خطف التلفزيون من الإذاعة جمهورها (الذي راح لاحقاً لليوتيوب)، جاء البودكاست لينتقم للإذاعة، ويستعيد جمهورها، لكن هذه المرة ليس عبر صناديق الراديو العتيقة، لكن من خلال الهواتف الذكية التي تحولت إلى منصات حقيقية، للعبور إلى عوالم رحبة أكبر بكثير من شبكة الأصدقاء والمعارف على قائمة الأرقام التي نحتفظ بها على هواتفنا.