لندن (الاتحاد)
في وقت الأزمات والحروب والاضطرابات وغياب اللايقين، يجد الإعلام نفسه أمامه دور جديد غير تقليدي يتجاوز مجرد مساعدة الجمهور، على أن يعرف أكثر. في مواجهة الأعاصير، ينتظر الكثيرون من الإعلام المساهمة في تخفيف حدة القلق ومداواة الجروح .. لكنه للأسف يفعل العكس. يفاقم التوتر وينشر الكآبة ويثير المزيد من الشكوك بشأن إمكانية الخلاص الفردي أو الجماعي. ترتكب المنصات الإعلامية هذا الخطأ في شرق العالم وغربه، بالإفراط في نشر وبث أخبار الجريمة والعنف والقصص المأساوية الحزينة مع صور الضحايا حتى ولو كانوا أطفالاً صغاراً ... أو بالإفراط في الأخبار التافهة التي لا تستهدف سوى تسلية القارئ أو المشاهد ولو بأسخف طريقة.
وكلما كانت جرعات الدماء والعنف والجريمة أو الفضيحة قوية، كلما كانت القصة الصحفية أكثر جاذبية.. تجاوزت هذه النوعية من القصص حدود صفحة الحوادث، وصار لها مكان معتبر في الصفحة الأولى ونشرات الأخبار والبرامج الرئيسية في الصباح والمساء على شاشات التلفزيون.
قبل ظهور الصحافة والإعلام، عاش ملايين البشر من دون أن يسمعوا عن أو يشاهدوا جريمة قتل أو خطف، لكن بعد عقود طويلة من هيمنة الإعلام على الفضاء العام، لم يعد العنف حتى بأقصى درجاته الوحشية والشاذة، غريباً بالنسبة للجميع.. فوسائل الإعلام لا تتوقف عن ضخ تفاصيل هائلة كل يوم بشأن جرائم لا حدود لها.
يؤثر ذلك على المزاج العام من دون شك، خاصة في اللحظات العصيبة التي تواجهها المجتمعات. جائحة كورونا مثلاً، أظهرت بوضوح كيف أن الحالة النفسية للملايين عبر العالم، تأثرت وتضررت كثيراً خلال ذروة الوباء مع فرض حالة العزل المنزلي الإجباري وتزايد انتشار الأخبار عن حالات الوفاة والإصابات والمعاناة المؤلمة التي طالت كثيرين بسبب الفيروس وتداعياته، مع تزايد استخدام مواقع التواصل والمنصات المختلفة خلال فترات العزل.
باختصار تهيمن جرائم العنف على أجندة الأخبار، كما تقول كريستينا بيوكانان، المحاضرة في قسم علم النفس جامعة إسيكس البريطانية في منصة «كونفيرسيشن».. وعلى الرغم من تأثيراتها السلبية، يجد كثيرون صعوبة في أن يشيحوا بوجههم بعيداً عن الشاشات الذكية، كأن قوة قاهرة خفية أو نوعاً من الإدمان يجبرنا على متابعة وملاحقة تلك الأخبار التي من دون شك تعكر صفونا نهاراً وليلاً.
الجديد الآن أن الأبحاث العلمية أكدت بالفعل أن الأخبار السيئة تؤثر علينا سلباً، حيث ثبت أن متابعة أخبار كورونا عبر «تويتر» أو «يوتيوب» لمدة لا تزيد على 4 دقائق عكرت مزاج الناس، بما يؤكد العلاقة الطردية بين استهلاك الأخبار وتردي الصحة العقلية، وأعراض الاكتئاب والقلق واليأس.
الأهم من ذلك، كما تقول عالمة النفس البريطانية، أن الدراسة التي أجراها الباحثون كشفت أن متابعة القصص الإخبارية الإيجابية - وتحديداً، مقاطع الفيديو والمقالات التي تعرض بعضاً من أعمال الخير، تؤثر إيجاباً على الصحة العقلية والمزاج النفسي للجمهور.
ضمن الدراسة، جعل الباحثون الجمهور يطالع نحو 1800 قصة إخبارية. لم ير بعضهم سوى قصص إخبارية سلبية - بما في ذلك لقطات تفجيرات أو أعمال عنف وحشية أو قسوة على الحيوانات. عُرضِت على الآخرين قصة إخبارية سلبية، تليها على الفور قصة إخبارية إيجابية. تضمنت القصة الإيجابية أعمالاً طيبة لشخصيات خيرة قامت بجهود بطولية أو قدمت رعاية بيطرية أو ساعدت مشردين.
تقول كريستينا بيوكانان «طلبنا من المشاركين أن يحكوا لنا عن شعورهم قبل وبعد مشاهدة المحتوى الإخباري. كما سألناهم عن مدى ميلهم للإيمان بطيبة الآخرين».
تبين أن المجموعة التي عرضت عليها قصصاً إخبارية سلبية تليها قصص إيجابية كانت حالتها النفسية أفضل بكثير من المجموعة الأخرى التي طالعت قصصاً سلبية فقط. بل وشعروا بمزيد من الرقي الإنساني وتولد لديهم مشاعر بأن الإنسان بطبعه طيب وصالح ويحب الخير للجميع. واختبر الباحثون أيضاً أحاسيس مجموعة ثالثة تعرضت لأخبار سلبية ثم قصص مسلية طريفة، ووجدوا أن تلك الأخبار المسلية خففت من اضطرابات المزاج الناتجة عن القصص السلبية، لكن ليس بالقدر نفسه في المجموعة الثانية.