لندن (الاتحاد)
تواجه الصحافة العربية مأزقاً تاريخياً ومهنياً منذ مطلع العقد الثاني من القرن الـ 21، تعجز حتى الآن عن تجاوزه. فالاضطرابات الاجتماعية والتوترات السياسية والأزمات الاقتصادية التي تفجرت بقوة كالقنابل العنقودية في المنطقة على مدى السنوات الماضية، أربكت منظومات إعلامية لم تكن مستعدة أبداً للتعامل بجدية وحرفية مع شظايا القضايا المعقدة التي أخذت تحاصر الملايين. 
جاءت استجابة الإعلام العربي للتطورات غريبة بعض الشيء. أبرز ما فعله، كان فتح الباب على مصراعيه أمام طوفان من الآراء. صارت مقالات الرأي وبرامج «التوك شو» منصات تقصف الجمهور بوابل من الآراء على مدار الساعة. التحليلات الاستعراضية  كانت هي الآلية الوحيدة تقريباً التي لجأ إليها الإعلام العربي - مع مواد التسلية والترفيه - لمواكبة ما جرى. 
سيقول المدافعون، إن الظروف حتمت على الجميع محاولة فهم وشرح ما جرى، وأنه في ظل حالات الاستقطاب العنيفة، لم يكن ثمة مفر من فتح الباب على مصراعيه أمام الكتاب لعرض وجهات نظرهم في تفسير الواقع أو لمحاولة تجاوزه. صار الأمر أشبه بمتلازمة لم تسلم منها حتى الرياضة والفن والثقافة.. آراء كثيرة ومعلومات قليلة.
لكن هناك من يرى أن الإعلام العربي، تحت تأثير الصدمة، يبدو  كما لو أنه في حالة تنويم مغناطيسي تجبره - دون شعور - على الإفراط في التركيز على تقديم المزيد من الآراء على الأقل للرد على الجمهور، الذي مكنته السوشيال ميديا للمرة الأولى في التاريخ من أن يكون له صوت مسموع في مواجهة الميديا التقليدية. كأن الإعلام قرر أن يواجه آراء الجمهور بآراء الكتاب عبر أعمدة الرأي والمقالات.وفي غمرة ذلك كله، تم تجاهل التحقيقات الاستقصائية كفن صحفي بالغ الأهمية، تشتد الحاجة إليه دوماً، خاصة خلال الأزمات، في مواجهة العواصف وتفشي اللايقين.
فالتحقيقات، تعني المعلومات والبيانات والإحصائيات التي تكشف جوهر المشاكل التي يواجهها المجتمع في مختلف القطاعات، بما يساعد الجهات المعنية باستمرار على معالجة أوجه القصور ومواصلة التطوير وجهود البناء، من خلال الاستماع لتقديرات العلماء والباحثين والخبراء والمتخصصين في كل مجال. وهي أيضاً تعني قدرة المصادر على الحديث دون خوف من التبعات وقدرة الصحفي على الوصول بسهولة للمعلومات واكتشاف نقاط الخلل.
لكن هل يستطيع الإعلام في العالم الثالث القيام بذلك؟! للأسف، ترك الإعلام العربي جمهوره، حائراً وسط صحراء من الآراء، بسبب عجز الإمكانيات وصعوبات الواقع. صحيح أن هناك على الدوام جهوداً معتبرة لتقديم تحقيقات جريئة وعميقة عبر كثير من المنصات.. لكن مازال هناك الكثير الذي يمكن تقديمه، خاصة وأنه ثبت بالتجربة أن التحقيقات لم تعد فقط التزاماً مهنياً أخلاقيا، بل أنها ضرورة حتمية أيضاً من أجل بقاء المؤسسات الإعلامية وانتعاش أوضاعها المالية. فقد أكد رؤساء تحرير صحف كبرى مثل «الفايننشال تايمز» و«الجارديان» و«نيويورك تايمز» أن التحقيقات الجادة تزيد بالفعل من أعداد المشتركين.

رئيس التحرير التنفيذي السابق لصحيفة نيويورك تايمز دين باكيه قال في قمة إعلامية بلندن في الأسبوع قبل الماضي، إنه لا يستطيع - مثلاً - أن يقول ما إذا كان تحقيقات الصحيفة الحائزة جائزة بوليتزر حول ممارسات منتج هوليوود هارفي واينستين، كان لها تأثير مباشر على القراء أو الاشتراكات، لكنه يعتقد أن هذا النوع من التحقيقات له تأثير تراكمي على المدى البعيد.
وأضاف باكيه أن التحقيقات تصنع رابطاً مهماً للغاية بين القارئ والمؤسسات الإخبارية، ينطوي على مزيج من الثقة والتقدير.
وأوضح أن الصحافة الاستقصائية يمكن أن تساعد في استعادة سمعة وسائل الإعلام الإخبارية التي تضررت كثيراً من تهجم الرئيس السابق دونالد ترامب عليها، ودفع الناس للتشكك بمصداقيتها مع تفشي ما يعرف بالحقائق البديلة والأخبار المفبركة.
وتابع «التقارير الاستقصائية، عندما تكون صحيحة، عندما تكون حقيقية، عندما يكون لها تأثير، ستساعد في استعادة سمعتنا».
وأكد أن ذلك سيقود بلا شك إلى الازدهار على المدى البعيد.

وقالت رولا خلف، رئيسة تحرير صحيفة فاينانشال تايمز، لمئات الصحفيين، إن التحقيق الذي أجرته الصحيفة على مدى ست سنوات والحائز جوائز بشأن شركة التكنولوجيا المالية الألمانية الاحتيالية «وايركارد»، أدى إلى زيادة «هائلة» في عدد المشتركين من ألمانيا.
وأضافت: «من الواضح، كما هو الحال مع العديد من التحقيقات، أن الكثير من المشتركين يكتبون في التعليقات أنهم على استعداد لدفع ثمن فاينانشيال تايمز مقابل تلك القصة الواحدة فقط». «وكانت وايركارد أفضل مثال على ذلك».

بودكاست استقصائي
قال جيمس هاردينغ، المحرر السابق لصحيفة التايمز، مدير «بي بي سي نيوز» الذي شارك في تأسيس منصة Tortoise Media عام 2018، إن السلسلة الأولى من بودكاست «لندنغراد» الاستقصائي الذي تبثه المنصة، بشأن تأثير التمويلات الخارجية على الحياة العامة البريطانية، كان لها تأثير  كبير على الاشتراكات.
وقال إن الحلقة الأولى من لندنغراد التي صدرت في يونيو من العام الماضي، «ضاعفت ما نراه عادة» مع زيادة لاحقة بنسبة 20% على أساس أسبوعي.