في معرض الكتاب تحتار من أين تبدأ، وإلى أين تتجه، كل البوابات مشرّعةٌ ٌ للحب، للذهاب نحو الكلمة والمعرفة والثقافة بمفهومها الشامل، المعرفة حين تأتيك على بساطٍ من علم يكون لأثرها مساحات شاسعة من الفرح، لا أعرف شعور أولئك الذين يقرؤون من وراء الشاشات، أظنهم يفقدون المتعة والشغف بما وراء الصفحات، وما بين السطور، لا مجال لأن تشتمَّ رائحة الورق تلك التي تعقد بينك وبين الكتاب علاقة متينة ووشيجة من السعادة، والتوق إلى ما هو أبعد من قراءة، وأقربُ من معرفة.
أولئك الذين يعقدون صداقة بين الكتاب والشاشة، يُشبهون الذين يكتبون على لوحات مفاتيح الأجهزة النقالة أو الثابتة تشعرُ بأن لا روح تصلهم بالكلمة، هنا فقدٌ عظيم لمتعة أن تمسك بالقلم وتكتب، لله ما أجمل تلك الأيام ودروس المعرفة الأولى «مع حمد قلم»، قد تغيرّت الأحوال وأصبحت العبارة «مع حمد جهاز كمبيوتر»، ليس في الأمر -حتى لا أطلق التعميم- بالنسبة لي تلك البهجة التي كانت، وإليها يأخذنا الحنين.
في العلاقة مع القراءة هنا وشائج تنمو، وعلاقات تتطور، وشخصيات تتشكّل، وعقول تستنير، في حالة من التوحد مع ما يحمله الكتاب بين دفتيه من علم، ومعرفة، بالطبع ليس كل كتابٍ يمكنك استنطاقه، أو يمكنه اختراق حواسك حتى أنك تعود إليه بعد القراءة مرةً، ومرتّين، تلك العلاقة الجميلة بين القارئ والكتاب الورقي- على الدّقة- لا يشعرُ بها إلاّ من تعلقت روحه بالمعرفة المقرونة بعطر الورق، ورائحة الوقت النّدي، العميق.
في تجليات الكتب والمعرفة تحمل بين يديك حكايات، وروايات، وآدابٍ، وحالات إنسانية، و«قصص شتى تُروى حتى نعرف أحوال الإنسان»، هذه الأغنية التي رافقت طفولتنا تربطنا بالقراءة، بالشوق إلى الغوص في مصادر الكتب ومراجعها ومخطوطاتها، هناك عشّاق لكل صنفٍ من صنوف المعرفة، وأنا أسير في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، رصدتُ إحدى الشخصيات عالية المقام والحضور المجتمعي، رأيت أبا أحمد يلتقط المخطوطة، ويمعنُ البحث والقراءة، ثم أخذه الشغفُ أكثر فأخذ مقعداً وجلس ليطّلعَ أكثر، كان معالي الأستاذ محمد المر في حالة توحدٍ مع الكتاب، لم يتنبّه إلى أنني واقفة في دهشةٍ أنظر إلى هذا الرجل غزير المعرفة وهو يحتضن الكتاب بين يديه.
هنا يكمن العشق الحقيقي للكتاب، نعم إنها رائحة الورق، شكل الحروف طازجة حتى وإنْ كانت المخطوطات قديمة متهالكة، ممزقة الأطراف، لكنها تأخذك إلى عالم آخر من الحب للقراءة، وتجليات العلاقة الخاصة بك مع ذاك العالم الذي استنطق حرفي، وأخذني نحو الحلم الأول بأن أصبح كاتبة، وقد كان لله الحمد، شكراً لأصدقائي الأوفياء، القلم والكتاب.