لكبيرة التونسي (أبوظبي)
رحلة المقيظ لا تزال عالقة في ذاكرة الإنسان الإماراتي، ينهل منها معيناً ثقافياً وتراثياً لا ينضب، لأنها تعكس مدى لُحمة أبناء المجتمع المحلي وتعاون أفراده وتفرد ثقافته وتنوعها بتنوع المكان والزمان. 
الدكتورة موزة بن خادم المنصوري في كتابها «رحلة المقيظ في التراث الثقافي الإماراتي»، والذي يتضمن 8 فصول ويقع في 203 صفحة، استعرضت مجموعة من الظواهر الاجتماعية والثقافية المرتبطة برحلة المقيظ، وأماكن القيظ في الدولة قديماً، ووسائل التنقل، وثقافة المقيظ باعتباره رحلة فرح وتغيير وما ينتج عنها من علاقات اجتماعية واقتصادية. 
أشارت المنصوري إلى أن رحلة المقيظ قديماً كانت ترتبط بالذاكرة الجمعية لأهل الإمارات، فهي كانت تمر عبر الصحراء لتتهادى فيها قوافل الإبل في رحلات صيفية سنوية، تنقل سكان السواحل إلى الوديان والواحات هرباً من ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة، لتنعم عوائل المصطافين بنسائم لطيفة وتستظل بظلال أشجار النخيل والفاكهة، وتسكن بيوتاً من سعف النخيل يتم إعدادها لاستقبالهم كل عام، موضحة أن هذه الرحلة الصيفية السنوية حملت إرثاً اجتماعياً وحضارياً ثرياً في الإمارات، وزخرت بكثير من أشكال التواصل والترابط بين مختلف البيئات الجغرافية، فبين السواحل والجبال والوديان والواحات ينتقل الإنسان الإماراتي مترجماً وحدة الزمان والمكان والإنسان منذ القدم.

إرث أصيل
وأكدت المنصوري، أن هذا الموروث استنبطته من روايات كبار المواطنين الذين عايشوا هذه المرحلة، ومازال صداه يتردد في ذاكرتهم، حيث احتفظوا في أذهانهم ووجدانهم بالعديد من المشاهد والمحطات والمواقف المرتبطة برحلات القوافل، وذكريات استخدام سيارات الدفع الرباعي التي ظهرت أوائل الستينيات من القرن الماضي، مؤكدة أن الكتاب يعتبر وثيقة تسلّط الضوء على هذا الإرث المتأصل الذي يحتاج في كتابته إلى موسوعة، مشيرة إلى أن الموروث غني بالصور والظواهر الاجتماعية، التي تتطلب الكثير من البحث والتنقيب. 
فرحة وشغف
وأوردت المنصوري في كتابها، الصادر عن هيئة الشارقة للتراث، أن رحلات المقيظ زخرت بالكثير من أشكال التواصل بين أكثر البيئات الجغرافية تنوعاً وتبايناً، عاكساً علاقة الإنسان بالزمان والمكان، مؤكدة أن رحلة القيظ كان ينتظرها الناس بفرحة وشغف كبيرين، من ناحية استقبال المصطافين بكرم وحفاوة، وإقامة علاقات اجتماعية مستدامة، حيث تتوطد العلاقات وتترسخ من عام لآخر. 
وأوضحت المنصوري أن التغيرات المناخية والبيئية المتعلقة بفترة الصيف في الإمارات زمن ما قبل الطفرة، أدّت إلى تنوّع الأنشطة الاقتصادية والمهنية، فهناك رحلات بحرية متعلقة بالغوص بحثاً عن اللؤلؤ، تقابلها رحلات برّية إلى المصايف المحلية لقضاء وقت ممتع، موضحة أن عبق هذه الرحلات وقصصها وذكرياتها ما زالت موثقة في الكثير من المرويات والقصائد سواء الشفهية منها أو المدوّنة.

دور المرأة
وأشارت المنصوري إلى أن المرأة الإماراتية كان لها دور حيوي وكبير في رحلات المقيظ، حيث أثبتت تميّزاً وقدرة على القيادة، فهي صاحبة الرحلة ومهندستها، منذ بدايتها وحتى نهايتها، لاسيما أن الرحلات كانت تتزامن مع موسم الغوص، حيث كان أغلب الرجال منشغلين بممارسة الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، بينما النساء والصغار وكبار السن في يعرجون إلى المصايف.
حنين إلى الطبيعة
أكدت موزة المنصوري أن رحلة المقيظ التي كان ينتظرها الإماراتيون سنوياً للاستمتاع بالطبيعة بعيداً عن حرارة المدن، تُعد موسماً ثقافياً واجتماعياً توارثه الأبناء عن الآباء والأجداد الذين كانوا يكابدون العيش في بيئة قاسية وصعبة، تغلب عليها الرطوبة العالية والشمس الحارقة، مشيرة إلى أن موسم الصيف كان يحرّك في نفوس سكان الإمارات، الحنين إلى النخيل والمياه والطبيعة الخلابة، وملتقى العائلات تحت ظلال النخيل وخيرات البساتين، حيث شكل المقيظ ملحمة ثقافية ورافداً من روافد التراث الثقافي، وأعاد صياغة الزمان والمكان وشكل هوية وموروثاً وذكريات لا تزال باقية حتى اليوم.