في لقاء جمع الموسيقار محمد عبد الوهاب بالكاتب مصطفى محمود، راح الأول يفتخر بأنه يخدم الإنسانية عن طريق إبداعه الفني.. بينما رأي الثاني أن هذا كلام إنشائي، والأكثر أهمية منه هو العمل الخيري الذي يفيد الناس حقاً.
انتشر على الـ «سوشيال ميديا»، مقطع فيديو لمصطفى محمود يحكي هذا الكلام، ليلقى إعجابا وتعليقات مؤيدة من آلاف المشاهدين.. فلسبب ما لا يُنظر للفن كعمل حقيقي، بل كشيء ينبغي التوبة عنه لعمل شيء مفيد! في المخيلة الشعبية يعتبر الطبيب أهم من الفنان، والعلم أهم من الفن، والقول بأن «الموسيقى غذاء الروح» ضرب من العبث والهزل!
فما رأيك؟ هل ترى الفنان أقل شأناً من العالِم حقا؟
تذكرت فيديو مصطفى محمود حين قرأت ذلك الخبر: باحثون في معهد لايبنيز بألمانيا، اكتشفوا نوعاً جديداً من المركبات الكيميائية القاتلة للفطريات، فقرروا تسميتها على اسم فنانهم المفضل «كيانو ريفز» الذي يفتك بالأعداء في الأفلام!
هذا مثال شديد الوضوح، لدور الفن في صياغة خيال العلماء أنفسهم.. للفن دور في تلطيف حياة الباحث الذي يقضى حياته وسط العينات والميكروسكوبات في سباق محموم للنشر العلمي كي لا تفصله الجامعة، التي لا يجد منها العائد المادي الكبير كأغلب الأكاديميين.. يمكنك تخيل حياة هذه الباحث حين يعود لبيته ويشاهد فيلما يجدد نشاطه ويشحذ خياله.. فالحقيقة أن الفن هو ما يعطي لحياة الكثيرين طعما وسط دوامة الحياة الطاحنة.. تصفي ذهنك وأنت تسمع موسيقاك المفضلة في نهاية يوم شاق وأنت تشرب الشاي، أو تتابع مسلسلك المفضل الذي ينزعك من تفاصيل أعبائك اليومية..
التسلية ليست رفاهية، لأن زيادة المشاعر الإيجابية ضرورة لتحسين صحتنا النفسية «كما تشير دراسات باربرا فريدريكسون عى سبيل المثال».. فهل من الأخلاقي حقا أن نسلب الناس حقهم في هذا الجانب الوجداني من حياتهم ليظلوا أسرى مهامهم اليومية الجافة؟ هل من الأخلاقي سلبهم حق الخيال الذي يجمل قسوة الواقع؟ دعهم يشاهدون بطلهم المفضل يقاتل الأعداء، أو يضحكون مع تلك المسرحية الهزلية، أو يسرحون بخيالهم مع هذه الأغنية أو تلك.. هذا يعوض متاعبنا ويمنحنا لحظات من السمو فوق مشاكلنا.. كما يلهمنا، كما ألهم العلماء الذين أطلقوا اسم نجمهم المفضل على اكتشافهم العلمي!
ليس الفن بعيداً عن العلم، بل إنهما ينبثقان من ذات المنبع.. كلاهما يعتمد على الإبداع لا التكرار.. كلاهما تقدمي ملول يتطلع لخلق شيء جديد لا اجترار ما تكرر سلفاً.. بل إن كثيراً ما يكون الفن هو القائد الحقيقي لدفة العلم. كل اختراع حديث بدأ في رواية أو فيلم خيال علمي: الذكاء الاصطناعي، السيارات ذاتية القيادة، شاشات اللمس..  فيلم رحلة إلى القمر «1902» سبق السفر للفضاء.. لم يكن أي اختراع ليوجد أصلاً لو لم يبدأ كحلم خيالي زُرع في عقل الباحث، عن طريق رواية أو فيلم أو حكاية تجعله يعتاد توسيع أفق تفكيره لأبعد من حدود الممكن والمتاح في الواقع الحالي.
مِن هنا نفهم نصيحة آينشتاين الثمينة. حين سألته امرأة: كيف أنمي ذكاء ابني؟ فكان رده:
اجعليه يقرأ قصصاً خيالية.. ثم يقرأ قصصاً خيالية.. ثم يقرأ قصصاً خيالية!