سلطان الحجار (أبوظبي)
«أرض النفاق».. رواية كتبها الروائي والسياسي يوسف السباعي، تم نشرها عام 1949، وتتحدث عن انحلال القيم الرفيعة في حياة الإنسان الاجتماعية والسياسية والثقافية ومناحيها المختلفة في إطار نقدي ساخر.. اتخذ الكاتب فيها أسلوباً روائياً مميزاً يشهد على تفوقه العلمي وبراعته الفنية ونظرته الثاقبة، عبر قصة خيالية نقد بها المجتمع بشكل لاذع وعنيف، كاشفاً ما فيه من أمراض اجتماعية وتدني الأخلاق، مبيّناً مخاطر النفاق على المجتمع.
الرواية، تُعد من أروع الروايات العربية التي تتميز بمحتواها وجودة ثيمتها وبراعة سردها وساردها، وتُرجمت إلى العديد من اللغات، وتحولت إلى فيلم يحمل اسم الرواية نفسها عام 1968، وتقع في 287 صفحة، وتعددت طباعتها من خلال مطابع داخل مصر وخارجها، ونالت شهرة كبيرة، وأثّرت في المجتمع المصري تأثيراً بالغاً، وتناولها النقاد والكتاب والباحثون نقداً وتحليلاً من زوايا متعددة ومنظورات مختلفة.
الراوي والتاجر
الرواية تتكون من شخصيتين رئيسيتين، هما الراوي وتاجر الأخلاق، والقصة هي أن الراوي يمر ذات يوم بطريق بعيدة عن ضوضاء المدينة، فيشاهد لافتة غريبة مكتوبة عليها، «تاجر أخلاق بالجملة والقطاعي، والمحل له فروع في جميع أنحاء العالم»، فيندهش لما يقرأ ويشك في سلامة نظره فيعاود القراءة مرة أخرى، ويجد أنه بالفعل «حانوت» لتاجر أخلاق، فيتحمس لزيارته ويسأل صاحب الدكان عن بضاعته فيشرح له أنه يبيع الأخلاق، وهذه الأكياس تحتوي على مساحيق لأنواع مختلفة من الأخلاق من الصدق والصبر والإخلاص والصراحة والعفة والكرم، وما إلى ذلك من الأخلاق المحمودة، فطلب الراوي منه أن يزن له رطلاً من الشجاعة، فقال نحن لا نبيع هكذا، إن مقياس البيع هنا بالزمن، فيمكنك أن تأخذ مقدار شجاعة يوم أو عشرة أيام مثلاً، ولا نقبض ثمناً هنا، والحساب يكون يوم الحساب، فابتاع جرعة الشجاعة لعشرة أيام، ووصف له تاجر الأخلاق كيفية تناولها بإذابتها في الماء وتجرعها.
أخلاق للبيع
اندهش الراوي، وبدأت تقلقه أسئلة عديدة، هل الأخلاق بضاعة يمكن الاتجار فيها؟، أم أن تاجر الأخلاق محتال ابتكر طريقة جديدة للدجل أم بعقله لوثة وجنون؟، ولذا سأله سؤالاً منطقياً، لماذا لا تأخذ جرعة من الأخلاق وتكون في مصاف عظماء القوم؟، فقال له هل تظن أن الأخلاق المحمودة تدفع بالإنسان إلى مصاف العظماء؟، يجب ألا تتوافر المزايا والأخلاق في رجل لكونه زعيماً وقائداً في هذا العصر، ولو كان الأمر كذلك لما تكدست هذه البضائع على الأرفف، والحقيقة أن الإنسان لا يحتاج الأخلاق المحمودة في هذا الزمن، وقد أصبحت عتيقة بالية لا تلائم نفوس الناس، ولو حاول أحد خوض معركة الحياة متسلحاً بالأخلاق الكريمة فقد يندم ويخسر.
وسأل الراوي صاحب الدكان، لماذا لا تجرب بيع بضائع أخرى من مثل النفاق والمكر والجبن والرياء والخسة، فأجاب قائلاً «إن لذلك قصة قديمة، فقد كان حانوت الأخلاق عندما أنشئ لأول مرة يكتظ بكل أنواع البضائع، فأقبل الناس يتزاحمون، ويطلبون حبوب الجبن والنفاق والمكر والرياء والخسة، واشتد تزاحمهم في الحانوت، وكان «النفاق» أكثر البضائع رواجاً، وأصبح الناس يتقاتلون عليه، فأصدر الحاكم أمراً بإغلاق الحانوت.
جرعة شجاعة
وبعد أن سمع الراوي هذه القصة، تردد في تناول جرعة الشجاعة، ولكنه تناولها أخيراً على سبيل التجربة، فبدأ ينتصر للضعيف ويعلو صوته على كل ظلم ويثور على كل من يخالف القانون، ولا يخاف أحداً مهما كبر أو علت منزلته، فانتقد الوزير ومديره فتم فصله من وظيفته الحكومية، وتعدى على زوجته بالضرب فطلبت الطلاق، وبذلك تحولت حبوب الشجاعة إلى وبالاً عليه، وتسببت في ضياع مستقبله وخراب بيته.
فلجأ إلى تاجر الأخلاق لينقذه مما حدث له، وطلب منه أن يسمح له بالمبيت عنده، فوافق، وأثناء الليل، شاهد الراوي كيساً للأخلاق في زاوية الدكان، فقرر أنه يسرق هذا الكيس ويلقيه في النهر، فيكون الجميع لديهم أخلاق، ونجح في تنفيذ هذه الخطة، وبالفعل تغيرت حال الناس بعد شرب ماء الأخلاق وذهب عنهم الرياء والنفاق وحل محلهما الصدق والإخلاص في كل عمل، وبالتالي بدأت تنكشف سوءات الناس، فحدثت الاضطرابات وهاج الشعب عندما شاهد الأشياء بجوهرها والأشخاص من دون قناع، وهكذا سرت الأخلاق بين الناس، وعم الرخاء والسعادة في البلاد، وبدأ الناس يعيشون عيشة رغيدة.
سوءات مجتمع
وبذلك تناول الكاتب يوسف السباعي أخطر القضايا وهي قضية الأخلاق التي تُعد من أكبر المشكلات الاجتماعية لا في المجتمع العربي فحسب بل في المجتمع العالمي، فمشكلة النفاق تتصدر قائمة الأخلاق الدنيئة، ولذا اعتبرها الكاتب ظاهرة خطيرة ضاربة في نفسية وعقلية الإنسان، وعزا إليها أسباب ضياع الأخلاق وتدهور القيم في المجتمعات العالمية، والرواية تشتمل على سبعة عشر فصلاً، وكل فصل تناول قضية لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالنفاق ودواعيه أو توابعه، وحقاً، أن النفاق له حضور طاغ في مجتمعنا، وقد تغلغل في النفوس وأفسدها، وهو السم القاتل الذي لا يهلك الإنسان عاجلاً ولكنه ينهكه من الداخل وينخر جسده.
وأثارت رواية «أرض النفاق» قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية متعددة، وصرفت أذهاننا بذلك إلى قيمة الأخلاق، إنها وضعت اليد لا على الجرح العربي فقط بل على جرح الإنسان وضربت على الوتر الحساس، وشنت غارة على المختفين بغطاء النفاق، وأكدت أنه لا بد من إزالة النفاق وتبديده لكي تنعم البشرية ولا ترزح تحت وطأته.
«أرض النفاق» رواية اجتماعية واقعية تحوي قضايا أخلاقية ومع أنها كتبت في منتصف القرن العشرين ولكنها متناغمة مع واقعنا في القرن الحادي والعشرين، ولغة الرواية ممتازة وراقية وزاخرة بالأمثال والحكم، كما أن كاتبها عاش الواقع الذي سجله في روايته، ولذا أحسن وصف الأحداث وتصوير الواقع في قصة بديعة، سردها خيالي ومدلولها مرآة صافية للحياة والمجتمع الإنساني.
على الشاشة
رواية «أرض النفاق» عرفت طريقها إلى الشاشة الكبيرة، من خلال فيلم سينمائي مصري عُرض عام 1968، من إخراج فطين عبد الوهاب، وسيناريو وحوار سعد الدين وهبة، وموسيقى تصويرية غوردون شيروود، وبطولة فؤاد المهندس وشويكار وسميحة أيوب وعبدالرحيم الزرقاني وحسن مصطفى، وتدور حول موظف حكومي متزوج يدعى (مسعود أبو السعد)، غير قادر على تغيير حياته، وبالصدفة يرى محلاً لبيع الأخلاق، ويرى أن الأخلاق القبيحة قد نفدت، فيقوم بشراء بعض أخلاق الخير، ولكنه بعد أن عمل بها خسر كل شيء، فيضطر إلى شراء بعض الأخلاق السيئة مثل «النفاق» الذي يساعده على تولي أفضل المناصب، ضمن أحداث يغلب عليها الطابع الكوميدي.
«جبرتي العصر» و«فارس الرومانسية»
يوسف محمد محمد عبد الوهاب السباعي (1917 - 1978)، أديب ووزير مصري سابق، تولّى العديد من المناصب، تدرج بها حتى وصل لأعلاها، فقد عمل كمدرس في الكلية الحربية، وفي عام 1952 عمل مديراً للمتحف الحربي، وتدرج في المناصب حتى وصل لرتبة عميد، وبعد تقاعده من الخدمة العسكرية تقلّد عدداً من المناصب منها: سكرتير عام المحكمة العليا للفنون، والسكرتير العام لمؤتمر الوحدة الأفروآسيوية عام 1959، ثم عمل كرئيس تحرير مجلة «آخر ساعة» في عام 1965، وعضواً في نادي القصة، ورئيساً لتحرير مجلة «الرسالة الجديدة»، وعُين عضواً متفرغاً بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدرجة وزير، ورئيساً لمجلس إدارة دار الهلال عام 1971، ثم اختير للعمل كوزير للثقافة في مارس 1973 في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وأصبح عضواً في مجلس إدارة مؤسسة الأهرام عام 1976، وفي عام 1977 تم انتخابه نقيباً للصحفيين المصريين، وفي يوم 18 فبراير عام 1978، تم اغتياله في قبرص، وفارق الحياة عن عمر ناهز الـ 60 عاماً، بعد حضوره مؤتمراً آسيوياً أفريقياً.
صدر للسباعي العديد من الأعمال الرائعة والتي زخرت بها المكتبات الأدبية، كما زخرت المكتبات السينمائية بقصصه المميزة التي ترجمت إلى أعمال فنية متميزة، شارك فيها أشهر النجوم وألمعهم، ومن هذه الروايات نذكر «إني راحلة، بين الأطلال، رد قلبي، جفت الدموع، ليل له آخر، نحن لا نزرع الشوك، لست وحدك، ابتسامة على شفتيه، العمر لحظة، أطياف، مبكي العشاق، شارع الحب، واذكريني»، ومن المسرحيات قدم «أقوى من الزمن، وأم رتيبة»، ومن القصص نذكر «بين أبو الريش وجنينة ناميش، يا أمة ضحكت، الشيخ زعرب»، وغيرها.
وأطلق نجيب محفوظ على السباعي لقب «جبرتي العصر»، لأنه سجل بكتاباته الأدبية أحداث الثورة منذ قيامها وحتى بشائر النصر في حرب أكتوبر المجيدة، كما يُعد السباعي ظاهرة أدبية في الحياة الثقافية المصرية، حيث أنتج التلفزيون المصري مسلسلاً عن حياته بعنوان «فارس الرومانسية».