سلطان الحجار (أبوظبي)
«قنديل أم هاشم».. رواية للكاتب يحيى حقي (1905 - 1992)، وتُعد من أهم أعماله الأدبية، وتتناول العلاقة بين المجتمع التقليدي بعاداته المتبعة جيلاً بعد جيل، والحداثة الوافدة، وتدور أحداثها حول الشاب إسماعيل الذي أنهى دراسته الثانوية، وغادر إلى أوروبا وبالتحديد «ألمانيا» لدراسة طب العيون، وعاد من هناك طبيباً مميزاً، وفي يومٍ شاهد والدته تقطر عين ابنة عمه الرمداء بزيت أُخذ من قنديل مقام «السيدة زينب»، وبما أنه قنديل المقام فإن هذا الزيت مبارك، فأخذ ابنة عمه، وقام بفحص عينيها فوجد أن (الرمد) أتلف جفنيها وأضر مقلة عينيها، ولكن في حال حظيت بالرعاية والعلاج المناسبين لتماثلت للشفاء، ولكن الزيت المستخدم وما يطلقون عليه (مباركاً) كان حاراً أضر بعينيها.
استهجن الطبيب الشاب فعلة أمه، رافعاً صوته بأن هذه الخرافات ليست من الدين في شيء، وأن عملهم هذا مجرد «خرافات»، وهنا يستنكر إسماعيل بعد اطلاعه على الحضارة والمدنية في أوروبا التفكير الرجعي لأبناء بلده، والتي تجعل من تلك الأفكار تطال كل صغيرةٍ وكبيرة في الحياة، حتى بلغ الأمر بتلك الخرافات بأن تطال صحة الإنسان وحياته، وهذا ما حدث مع ابنة عمه عند تقطيرها بالزيت للاعتقاد بأنه مبارك، وسيعجل بشفاء عينيها، وكانت النتيجة هي العكس تماماً، فقد كوى هذا الزيت الحار مقلتيها، وعند شروع إسماعيل للعمل في عيادته التي قام بافتتاحها في حي السيدة زينب، وهو أحد أحياء القاهرة المكتظة، اكتشف أن جميع مرضاه لا يتماثلون للشفاء سريعاً، وعند البحث عن السبب اكتشف أن زيت القنديل نفسه الذي استخدمته والدته لتقطير عيني ابنة عمه هو السبب، فقام بتحطيم القنديل لاعناً هذا التخلف الذي يسيطر على المجتمع.
بداية الصراع
من هنا يبدأ الصراع في القصة، فقد ابتعد أهل إسماعيل ومرضاه عنه بعد فعلته تلك، متهمين إياه بأنه يهاجم تعاليم الدين نفسه بفعلته تلك، وأنه قد أساء لنفسه قبل الإساءة لأهله ودينه، وتوالت الصراعات في القصة، حيث فشل في علاج عيني (فاطمة)، وأقام عند (افتالي)، ليرى المعاملة البذيئة كيف تكون، الأمر الذي جعله يعيد حساباته من جديد، متأملاً مواقفه التي جنى بها على نفسه ومجتمعه، وبأن العلم يتم تتويجه الإيمان، وعاد من جديد إلى عيادته معلناً للعامة أن في قلبه متسعٌ لقذارة تلك المعتقدات التي تربى هو عليها وهي من الأساس في أعماقه، وكانت عودة إسماعيل لعيادته يرافقه زيت القنديل الذي تمرد عليه، واستخدمه لمحاولة شفاء فاطمة، وكأنه يرمي بفعلته هذه عقد مصالحة مع أبناء حيه، والبحث عن رابط بين العلم الذي تلقاه وتلك المعتقدات التي تسيطر على أبناء الحي الشعبي، وهنا توقف عند الحدود التي تفصل الشرق عن الغرب، فمن الغرب كان النور والعلم فقط دون التحلي بعادات الغرب ونبذ قيمهم التي تحوي بين سطورها على الدوام الاستغلال والجشع، وعند الطرف الشرقي كان عليه التسلح بالإيمان وأصالة القيم ومحاولة تصويبها شيئاً فشيئاً عن طريق الدين.
على الشاشة
الرواية عرفت طريقها إلى شاشة السينما، عبر شركة القاهرة للإنتاج السينمائي عام 1968، وبطولة شكري سرحان وسميرة أحمد وعبد الوارث عسر وأمينة رزق وصلاح منصور وماجدة الخطيب، وسيناريو صبري موسي، وإخراج كمال عطية.
وتدور أحداث الفيلم حول إسماعيل «دكتور عيون»، والذي يصل إسماعيل إلى ألمانيا حاملاً، قفة مملوءة بالكعك، الذي صنعته له لأمه، ومتسلحاً بنشأته الدينية المحافظة، ولكنه يتقابل مع الفتاة الألمانية مارى (م. كوليكوفشكى)، والتي تساعده في التعرف على المجتمع الجديد والغامض عليه، وتعلمه اللغة الألمانية، وكانت مارى فتاة متحررة، تنظر للحياة نظرة مادية، فبدلت قيم إسماعيل الدينية والاجتماعية، وعرفته على الحضارة الأوروبية من مختلف الفنون، وجعلته يشاهد حياة أخرى، غير التي اعتادها، وظن إسماعيل أن ما حدث بينه وبين مارى، يستلزم زواجه بها، ولكنها لم تهتم بأمر الزواج، فالحب عندها شيء، والزواج شيء آخر.
بين العلم والمعتقدات
يعود إسماعيل بعد حصوله على الشهادة، والتدريب العملي، لعدم قدرة والده على إرسال المزيد من الأموال، ويفاجأ إسماعيل، بأن كل من يشتكى بعينيه، يضع بها قطرات من زيت قنديل مسجد السيدة أم هاشم، فيضيع كل جهده بعلاج المرضى، خصوصاً خطيبته فاطمة، التى كان يعالجها، وتضع لها والدته زيت القنديل، رغم تحذيره لها، فثار على ذلك الجهل، وحطم القنديل، وتعرض لاعتداء سافر من «محاسيب المقام»، وأهله وجيرانه الذين تخلوا عنه، حتى فقدت فاطمه بصرها، رغم أنه أجرى لها جراحة ناجحة، ونبهه صديقه بهجت «سعد أردش» طبيب العيون، أن فقد بصر فاطمة نتيجة عوامل نفسية، لعدم استقباله لها كزوجة المستقبل، عندما عاد من ألمانيا، ووجد إسماعيل أن السبيل الأمثل، هو التكيف المجتمع بما فيه من سلبيات، مع ما تعلمه، دون المساس بالمعتقدات، وبذلك يكتسب ثقتهم، ويعودون للالتفاف حوله، وبدأ بفاطمة وأحسن معاملتها، وأعلن إيمانه ببركة زيت القنديل، وأوهم الجميع أنه سيعالج فاطمة بزيت القنديل، وافتتح عيادة بحي السيدة، يعالج فيها الناس، بعد أن كسب ثقتهم، وأجرى عملية ناجحة لفاطمة، استردت فيها بصرها، وأقبل عليه الجميع، لاعتقادهم أنه يتبارك بزيت القنديل.
«الأب الروحي» لجيل الستينيات
يحيى حقي محمد حقي «17 يناير 1905م - 9 ديسمبر 1992م» كاتب وروائي مصري، ورائد من رواد القصة القصيرة، وُلد بحيّ السيدة زينب بالقاهرة، لأسرة مسلمة ذات جذور تركية، وترعرع وسط عائلة مثقفة كانت المطالعة أساسية في حياتها، فقرأ لعدد من الكتّاب العرب والأجانب المعروفين.
لُقّب حقّي بـ«الأب الروحي» لجيل الستينيات من القرن الـ20، كما نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وهي أرفع الجوائز التي تقدّمها الدولة المصرية للمفكرين والأدباء والعلماء، فضلاً عن نيله وسام «الفارس» من الحكومة الفرنسية وعدداً من الجوائز الثقافية الرفيعة، وكان واحداً ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية فرع الأدب العربي، لكونه رائداً من رواد القصة العربية الحديثة، عام 1990.
درس حقي الحقوق وعمل بالمحاماة والسلك الدبلوماسي والعمل الصحفي، ويعتبر علامة بارزة في تاريخ الأدب والسينما ويعد من كبار الأدباء المصريين، وفي مجاله الأدبي نشر أربع مجموعات من القصص القصيرة، وكتب العديد من المقالات والقصص القصيرة الأخرى.
في عام 1942م، تزوج يحيى حقي من فتاة من منطقة «المعادي»، اسمها «نبيلة»، وهي ابنة عبد اللطيف سعودي المحامي النسابة، عضو مجلس النواب بالفيوم، وأنجبت ابنته «نهى»، وقد توفيت زوجته بعد الولادة بشهر واحد، وظل وفياً لذكراها لعشر سنوات كاملة حتى عام 1954، حيث تزوج للمرة الثانية من الفنانة التشكيلية الفرنسية «جان ميري جيهو» وظلا معاً إلى مرحلة الشيخوخة حتى وافته المنية عام 1992.
ومن أهم أعماله ومؤلفاته الأدبية، البوسطجي، سارق الكحل، أنشودة للبساطة، صح النوم، في محراب الفن، كناسة الدكان، ناس في الظل، خليها على الله، تراب الميري، حقيبة في يد مسافر، خطوات في النقد، دماء وطين، صفحات من تاريخ مصر، عشق الكلمة، عطر الأحباب، من باب العشم، أم العواجز، قنديليات، مذكرات عابر سبيل، ومولد بلا حمص.