لكبيرة التونسي (أبوظبي)
تحفل أسواق أبوظبي القديمة بعبق التاريخ وحكاياته، فبالإضافة إلى جانبها الاقتصادي وحركة البيع والشراء، هي وجهة أساسية لتبادل الثقافات وتفاعل الحضارات، ومنبر للأخبار والشعراء بين أبناء الإمارات، وملتقى للتعارف ضمن تجربة مجتمعية كاملة. وعند استعراض ذاكرة المكان في مدينة أبوظبي، يتجه الحديث إلى السوق المركزي القديم، القابع في مخيلة كل من عايش فترة البدايات منذ عام 1968، ولعب دوراً اجتماعياً وإنسانياً واقتصادياً، إلى جانب توفيره لما يحتاجه السكان، وشكّل منصة للعلاقات الإنسانية المستدامة، وتأسس على الثقة ليصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية ويروي حكايات تسكن الوجدان، ويقف شاهداً على لحظات متميزة في حياة الناس، بوصفه منصة ثقافية، ومصدراً للفرح، لاسيما في رمضان والأعياد والمناسبات السعيدة.
فضاء مفتوح
سوق أبوظبي بطابعه القديم فضاء مفتوح، يمارس فيه الزوار شغفهم، يعرض مزيجاً مغايراً من البضائع، الكل يجد ما يحتاجه في هذا المكان.
منصة تواصل
تحدث سعيد بن كراز، الخبير التراثي بحنين عن السوق الذي شهد عصره المزدهر، ورسم لديه لوحة فنية ذات قيمة كبيرة في ذاكرته، مؤكداً أنه لم يكن بالنسبة له مجرد فضاء يجمع الناس، عندما كان يأتي إليه من مدينة العين مع والده، حيث كان منصة للتواصل، وفرصة للتعرف على أناس جدد، وفي الوقت نفسه للاستمتاع بأجوائه وخياراته المتعددة.
ذكريات
وأوضح بن كراز، أن السوق القديم في أبوظبي كان له مذاق خاص، ويذكر أول صورة التقطت له في هذا الفضاء، ولا ينسى مشهد طيور الحمام التي كانت تحوم حول المكان، بأصالته وعبقه تاريخه، موضحاً أن رائحة المكان ما زالت تسكن أعماقه وتتغلغل في الذاكرة، ثم تستيقظ كلما استدعاها.
قصص خيال
وقالت الدكتورة عائشة بالخير، مستشار البحوث في الأرشيف الوطني، إن سوق أبوظبي القديم، ليس حركة رواج تجاري، وإنما له أبعاد اجتماعية وإنسانية، يعكس قيم أهل الإمارات، مؤكدة أنه ارتبط في ذاكرتها بأول زيارة بعد قيام الاتحاد عندما كانت طفلة. وكان فضاءً مفتوحاً يثري مخيلتها، وله أثر عميق في نفسها.
ثقة ومحبة
ارتبطت الأسواق القديمة بحياة الناس، وبنيت على الثقة والمحبة، واستدامة العلاقات، حيث أكدت بالخير أنه في بعض الأحيان، كانت الأسواق ترتبط مع بعضها بعضاً رغم وجودها في مدن مختلفة، إلا أن روحها واحدة، مؤكدة أن بين أهداف الباعة في ذلك الوقت هو إسعاد المتعاملين، وكانت العلاقات مبنية على الثقة. والتعاملات في الأسواق القديمة تأسست على احترام ملكية الآخر واتفاقات شفاهية من دون عقود أو ضمانات، معتمدة على سمعة المتسوق ووفائه بعهده، حيث كانت تربط العميل علاقات استثنائية مع تجار السوق. وأردفت بالخير أن السوق القديم في أبوظبي جسد قيم التسامح التي تنتهجها الإمارات، حيث كان مقصداً لمختلف الجنسيات، ولم يفرق بين مرتاديه أو يميزهم بالعرق أو الدين أو اللون.
البائع والزبون
وقالت بالخير: إن انفتاح سوق أبوظبي القديم، ونوع عمارته كان يضفي البهجة على مرتاديه، ولأنني اعتدت على أسواق دبي المسقوفة، جعلني أدرك الفرق وأشعر براحة كبيرة كلما زرت هذا السوق، ومن هنا ربطتني به قصص كثيرة، وكلما أتيته كتبت قصة في مخيلتي ترافقني حتى اليوم، فقد كان غاصاً بالباعة الذين ينادون على الزبائن وسط علاقات تفاعلية جميلة، ليرتبط البائع بزبائنه بشكل شخصي ويخصهم ببضائع مميزة غير متوافرة في أماكن كثيرة، لذا كنا نأتي إلى سوق أبوظبي القديم بحثاً عن الأقمشة الممتازة والمشغولات الذهبية النادرة.
لوحة فنية
ألهمت الأسواق القديمة، الفنانة خلود الجابري، فمنذ صغرها لم تدخل هذا الفضاء إلا والتقطت صورة فنية ظلت محفورة في ذهنها، إلى أن تحررها بريشتها عبر لوحة جميلة، مؤكدة أن للأسواق القديمة روحاً وقلباً مختلفين عن بقية الأسواق العصرية، وتجمعها مع سوق أبوظبي القديم ذكريات كثيرة، لاسيما في مرحلة المراهقة والدراسة بالجامعة، حيث كان هذا السوق يجمع بين الملابس والأكسسوارات وسواها، إضافة إلى سوق الخضراوات وسوق السمك.
وأضافت: الأسواق القديمة تشعرنا بالحنين إلى الماضي وتحضّنا على استرجاع الذكريات، فهي مصدر لأغراض عدة من ملابس ودخون وبخور وأكواب وصناعات قديمة، لذا أعشق زيارتها لاقتناء كل ما هو قديم واستنشاق روائحها الخاصة، لافتة إلى أن السوق القديم وجهة مثالية للأسرار والحكايات، ويضفي راحة نفسية كبيرة على مرتاديه.
تصميم بديع
قام بتصميم هذا السوق التقليدي البديع، المصمم المصري عبد الرحمن مخلوف، وتم افتتاحه عام 1968، وأصبح من أشهر الأسواق الشعبية في أبوظبي. ولا يزال السوق محتفظاً بشعبيته، وتم إغلاقه في عام 2005 لترميمه، ثم عاد للعمل مجدداً عام 2013. ومع التحديثات التي خضع لها، لا يزال يحمل حنين الماضي بين أركانه.
للمرأة حضور خاص
أشارت الفنانة خلود الجابري إلى أن المرأة في الإمارات كانت حاضرة وبقوة للعمل بالأسواق الشعبية. تبيع المشغولات اليدوية، ولاسيما منتجات السدو والملابس وحياكة السجاد، وتسهم في مدخول البيت. ولم تغب عن الأسواق الشعبية، واليوم هي مستمرة في إنتاجها المحلي وتسويقه عبر منصات التواصل الاجتماعي، في تغير واضح لشخصيتها وطموحاتها واعتمادها على الذات.