سلطان الحجار (أبوظبي)
«بقايا اليوم» (The Remains of The Day)، رواية للكاتب البريطاني الياباني كازو إيشيغورو، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 2017، الرواية صدرت بالإنجليزية عام 1989 وحصلت على تقديرات نقدية عالية، كما حازت جائزة «مان بوكر»، واستطاعت ببراعة تقمص شخصية الراوي الأساسي للأحداث مستر «ستيفنز» رئيس الخدم الإنجليزي في منزل أحد القادة صانعي القرار إبان الحرب العالمية الثانية، وهو فيلسوف بشكل ما دون أن يدرك ذلك، حيث يستعرض وجهات نظره في الحياة طوال الرواية.
تتواصل أحداث الرواية حول رئيس الخدم الإنجليزي المحترف «ستيفنز»، وذكرياته مع سيده السابق اللورد «دارلنغتون»، الإنجليزي صاحب التأثير الكبير في السياسة الإنجليزية، والذي أُقصي فيما بعد عن الحياة السياسية البريطانية، وتوفي مُجللاً بالعار، لدعمه النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وعمله الحالي عند سيده المالك الجديد لدارة دارلنغتون الفاخرة، الأميركي السيد فاراداي.
تبدأ الرواية بوصول رسالة إلى «ستيفنز» من الآنسة «كنتون»، مديرة المنزل السابقة التي خدمت معه في دارة اللورد دارلنغتون في شبابهما، تحكي فيها عن حياتها، وتُلمح إلى أن حياتها الزوجية لا تسير على ما يرام، مما يجعل «ستيفنز» يأمل في إمكانية إعادة ضمها إلى طاقم مستخدمي دارة دارلنغتون، بسبب النقص الشديد في عدد المستخدمين، بسبب تغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
يستعير «ستيفنز» سيارة السيد فاراداي، الذي كان قد وعده بأن يعيره إياها، ليذهب في رحلة إجازة في الريف أثناء سفر الأخير إلى الولايات المتحدة الأميركية، وخلال رحلته، يتذكر ستيفنز أحداث حياته التي قضاها في خدمة اللورد دارلنغتون، والحياة الأرستقراطية وقتها، كما يتذكر وفاة أبيه، وتصرفات الآنسة «كنتون» عندما كانت مديرة المنزل، ضمن أحداث تعتمد «الفلاش باك».
ذاكرة مشوشة
بين هذين العالمين، تجري الأحداث من داخل قصر دارلنغتون، الذي يسرد منه مستر «ستيفنز» ما جرى من أحداث عظيمة، لديه ولدى العاملين به، لنلمس الانقسام بين الأحياء فوق، والأحياء أسفل القصر، الذين ليس لهم شاغل إلَّا إتقان عملهم كما ينبغي، ولا اهتمام لهم بما يجري من أحداث سياسية، سواء في الخارج أو داخل القصر، و«ستيفنز» المطلع على أمور كثيرة، ليس لديه اهتمام أكثر من متابعة العمل المنزلي، ورؤية كم هو المكان منظف ومرتب والأقداح لأي مستوى نظيفة والمشروبات الفاخرة، ولا يتدخل في شيء، إلَّا إذا طُلب منه، وإذا تدخل كان ذلك في صرامة ودقة، وحذر، حتى أنه يخشى أن تظهر عليه العاطفة، وإذا حدث ووجد نفسه، قد ظهر عليه شيء غريب، عاد لسابق عهده، بالضبط كالآلة.
وتتناول الرواية بشكل أعمق، علاقة الإنسان بنفسه، من خلال عمله وثقافته وما فرضه على نفسه من شكل حياتي واجتماعي، لكن لدى «ستيفنز» تنقلب الآية، فتتحول المهنة والحرفة لهوية تعيد تشكيله وتحدد مشاعره وأدق التفاصيل الخاصة به، لتعرض حياته بكل ما فيها من بساطة وتعقيد وملل وشد وجذب وملل ورتابة.
الرواية تنتمي لتيار الوعي، والمقصود بـ«بقايا اليوم»، ما تبقى لدى ستيفنز الخادم في قصر «دارلنغتون هول» من أيام، وكم تحتمل ذاكرته من ذكريات عمل على تخزينها طوال تلك السنوات، لذا تُكتب الرواية من خلال ذاكرة مشوشة وفردية للمؤلف، وبطلها ستيفنز، وتبدأ عن طريق الفلاش باك، الدخول داخل ذاكرة «ستيفنز»، من النهاية حتى البداية، فكازو يرى أن «الذاكرة بالنسبة للفرد هي بالضبط كالتاريخ بالنسبة للدولة».
لذا يدرك القارى أن «ستيفنز» هو كل هذه التراكيب الصعبة والمتناقضة الذي يعرض عالم وأجواء الأرستقراطية الإنجليزية الرفيعة، وعالم الخدم، العالم السفلي، ويصبح الخدم أبطالاً لروايات، خارجاً كازو عن النمط الإنجليزي المعروف في الكتابة.
واقعية خشنة
يمكننا دون منازع أن نعتبر المؤلف إيشيغورو، كاتب الشخصيات الثانوية بامتياز، فهو يمتلك قدرة كبيرة وغريبة على أن يبرز كل شخصياته مهما كان دورهم في القصة، صغيراً أو كبيراً، تماماً كأبطال العمل، فهو يعمل على ربطهم ببعض، كأنهم في عُقدة واحدة، فشخصياته قريبة الشبه بحياتنا، تخوض نفس التجارب الذاتية التي نخوضها، ويظهر هذا من خلال الشخصيات التي يقابلها «ستيفنز» طوال رحلته في الريف الإنجليزي، وشخصية والده الذي كان يعمل أيضاً خادماً في نفس القصر، وسبق أن فقد ابناً له في الحرب، وخدمته للقائد العسكري الذي من المفارقة كان قائداً للكتيبة التي كان فيها ابنه، ومات نتيجة إهمال هذا القائد، أيضاً الأشخاص العاملون في القصر رغم أنهم ثانويون، فإنهم عصب الرواية، أحسن كازو في بنائهم جميعاً، حتى إن كان ذكر أسمائهم نادراً خلال السرد.
واقعية كازو يمكن أن نسميها بالواقعية الخشنة، يعمل على صدمة القارئ، ليس مرَّة واحدة، بل في كل مرَّة تقرأ فيها له، حتى العناوين التي يختارها، متذبذبة وغير مستقرة، وتوحي بالكثير من التردد والحيرة، مثل عنوان روايتنا الحاليّة «بقايا اليوم» التي لن تفهم معناه، إلَّا بعد أن تصل للنهاية.
صراع الذكريات
هنا في الرواية تجد الأشخاص يتصارعون مع ذكرياتهم الشخصية ومحاولة الاختباء من ماضيهم أو مواجهة هذا الماضي، بالضبط مثلما يحدث مع مستر «ستيفنز»، فهو في حالة استرجاع لماضيه وصراع مع ذكرياته التي عاشها مع اللورد دارلنغتون، أيضاً نجد القلق متجسداً في رحلته التي خاضها في الريف الإنجليزي بحثاً عن مس «كنتون»، وهل سوف ينجح بإقناعها بالعودة للعمل في القصر أم لا، وهل سيخرج ستيفنز عن صمته وكبح مشاعره ويعبر عن حبه لها؟. ومن ناحية أخرى ما تفكر به مس «كنتون» حين تقابل ستيفنز، ولأي غرض جاء، كما تبحث عميقاً داخلها لمعرفة سبب كتمانه لحبه، وعدم بوحها هي بهذا الحب أيضاً، وحين حانت اللحظة وتقابلا، صب المؤلف كل القلق على المنضدة وخرج الاثنان دون قول شيء يذكر، ليترك قارئه في نفس الحيرة والتساؤل والقلق، كل هذه أشياء تصيب القارئ بالقلق، كما شخصيات الرواية قلقة، فأنت طوال الرواية تظل تطرح على نفسك أسئلة، وتنتظر إجابة، ربما لا تأتي.
حتى قصة حب «ستيفنز» لمديرة المنزل «مس كنتون»، لم يعترف بها حتى لنفسه، الحب الذي كان يمكن أن ينقذه من بين براثن عقله عندما يموت اللورد ويواجه «ستيفنز» نفسه بعد مضي الوقت، عندما يكتشف فجأة أنه لم يكن مهماً بتلك الدرجة التي جعلته منهمكاً في دوره كرئيس خدم، قصة الحب الرقيقة التي لم تتبلور سوى في ثلاثة مشاهد على الأكثر، والتي لم يعرها البطل الاهتمام الذي يليق بها وقتها، والذي جعله يجلس على الجسر باكياً في آخر مشاهد الرواية، بعد أن أضاع الكثير من الفرص في سبيل أفكار اكتشف بعد زمن أنها لم تكن بتلك الأهمية. في النهاية، يصل ستيفنز إلى حيث الآنسة «كنتون»، ويجد أنها قد تغيرت بعد عشرين عاماً، وأنها الآن «السيدة بن»، لتنحو الرواية منحى رمزياً بعدها، عندما يكتشف ستيفنز أن حياته ضاعت هدراً، وتبقى تفسيرات النهاية مفتوحة.
على الشاشة
بعد صدور الرواية وانتشارها الكبير في بريطانيا وخارجها، تحولت إلى فيلم سينمائي يحمل نفس عنوان الرواية، بطولة أنتوني هوبكنز، إيما تومسون، كريستوفر ريف، هيو غرانت، جيمس فوكس، وجون هيكرافت، وإخراج الأميركي جيمس أيفوري، وتولى السيناريو كل من الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر، وكاتب القصة الأصلي كازو إيشيغورو، ليخرج الفيلم للجمهور عام 1993، بإنتاج أميركي - بريطاني مشترك، محققاً نجاحاً باهراً، ويحصل على 40 ترشيحاً لجوائز عالمية، يحصد منها 16 جائزة، منها أفضل ممثل وممثلة، وأفضل مخرج، وكاتب سيناريو، وموسيقى.
وقد التزم الفيلم بالخطوط الدرامية الأساسية للرواية، حيث أضفى أداء أنتوني هوبكنز على الفيلم بعداً رائعاً ليس مستغرباً عليه، واستطاع أن يجسد شخصية «ستيفنز» ببراعة، ناقلاً كل ما شعر به وفكّر فيه على مدار عقود طويلة، وقد نجحت الإضاءة الخافتة، والديكور المتقن لغرفة رئيس خدم في قصر عريق، ونظرة «أنتوني هوبكنز» وأنفاسه التي تتسارع، في تأجج نار الصراع عبر الشاشة، فضلاً عن أداء إيما تومسون البارع لشخصية الآنسة «كنتون»، بكل ما فيها من مشاعر وأحاسيس وكتمان حبها لمستر «ستيفنز»، في محاولة فاشلة لإخفائه دون مبرر.
إيشيغورو.. الرواية منحته نوبل
كازو إيشيغورو، روائي ياباني بريطاني، وُلد في 8 نوفمبر 1954، في نجازاكي باليابان، انتقلت أسرته للعيش في إنجلترا عام 1960، حصل على درجة الليسانس من جامعة «كنت» عام 1978، والماجستير من جامعة «إيست أنجليا» لدورة الكتابة الإبداعية عام 1980، وصار مواطناً بريطانياً عام 1982.
يُعد إيشيغورو أشهر مؤلفي الأدب المعاصرين، وحصل على أربعة ترشيحات لجائزة «بوكر» الأدبية، حتى نالها عام 1989 عن روايته «بقايا اليوم»، وفي عام 2008، صنفت صحيفة التايمز إيشيغورو المؤلف رقم (32) في قائمتها لأعظم (50) مؤلف بريطاني منذ عام 1945، وفي عام 2017 تم منحه جائزة نوبل للأدب عن روايته «بقايا اليوم».
ومن أهم أعمال كازو إيشيغورو الروائية، «إطلالة باهتة على التلال 1982»، «فنان من العالم العائم 1986»، «من لا عزاء لهم 1995»، «عندما كنا يتامى 2000»، «لا تدعني أذهب أبداً 2005»، و«العملاق المدفون 2015». كما حصل إيشيغورو على جوائز عدة خلال مسيرته الأدبية منها «جراناتا» عن أفضل مؤلفين شباب بريطانيين عام 1983 وعام 1993، و«وايتبريد» عام 1986 عن روايته الثانية «فنان من العالم العائم»، وجائزة «البوكر» عن روايته «بقايا اليوم» عام 1989، وأيضاً رُشحت رواياته الثلاث «فنان من العالم العائم» و«عندما كنا يتامى»، و«لا تدعني أرحل» لجائزة «البوكر».