سلطان الحجار (أبوظبي)

«مالك الحزين»، إحدى أشهر وأهم الروايات العربية المعاصرة، مؤلفها إبراهيم أصلان، أحد أهم الأدباء المصريين المعاصرين، والذي كتب هذه الرواية في الفترة من ديسمبر 1972، وحتى أبريل 1981، أي في نحو 9 أعوام تقريباً.
الرواية استقت اسمها من ذلك الطير الجميل الذي يعيش على الأنهار طالما هي موجودة، وإن غارت أو جفّت دخل مرحلة الحزن النبيل، معبّراً عنه بتغريدات حزينة كمن أصيب بفاجعة، ونعتقد أن هذه التسمية الرمزية تحيل إلى الشعب المُعبّر عنه بمجتمع «الكيت كات»، والمعرّض للانهيار نتيجة اغتراب وظروف قاسية، على  الرغم مما يتّصف به من طيبة وجمال ونُبل.
تحتل الرواية المركز الحادي والأربعين في قائمة أفضل مئة رواية عربية، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي بعنوان «الكيت كات»، إخراج داود عبد السيد عام 1991. 
تدور أحداثها في «حي إمبابة» في القاهرة، تحديداً في منطقة «الكيت كات»، حول عالم مغترب يتغير أبطاله ويعاني كل منهم من همه واغترابه الخاص، ومع الوقت ندرك أن البطل الحقيقي للرواية هو ذلك الحي الشعبي، وإن كان ينتمي إلى فئة المهمشين الذين يعيشون في الظل، لكنه يتحدى إعاقته البصرية ليثبت للجميع أن الكفيف ليس هو الفاقد للبصر، بل هو الفاقد للبصيرة.

شكَّلت الرواية حدثاً مفاجئاً وقت صدورها مطلع الثمانينيات، إذ دارت أحداثها في أقل من يومين بمنطقة «الكيت كات»، ومن ثم اختلفت بذلك عن كل الأشكال السائدة للسرد القصصي حينها، فلم يهتم أصلان بخلق حبكة روائية ما، ولم يلتزم بأسلوب روائي واحد طوال النص، فضلاً عن أنه حاول وصف عالم كامل داخل نص قصير، وبعبارات مقتضبة مع اقتصاد واضح في الوصف والجمل الحوارية، وجد أصلان نفسه مضطراً للتوفيق بين نقيضين: كيف يصف واقعاً شديد البؤس والضيق، داخل نص أدبي رحب غني بالحياة، دون أن يقع في فخ تجميل الفقر وتجميل حياة المهمشين بما ليس فيها، بحيث لا يتسامح القارئ مع الظروف التي تحيا فيها شخصيات الرواية، وفي الوقت نفسه لا يفقد تعاطفه وإحساسه بهؤلاء «المدهوسين» تحت رحى سوء الطالع وغياب العدل المجتمعي، ولربما هنا تحديداً تكمن أسباب عظمة «مالك الحزين» بوصفها عملاً أدبياً استثنائياً في تاريخ الرواية المصرية.

واقعية القهر
نستطيع بعد صفحات قليلة من الرواية، ومع توالي ظهور الشخصيات المُكثَّف، أن ندرك أن حي «الكيت كات» هو البطل ومصدر الهوية لكل تلك الشخصيات التي نراها على مدار اليومين، ومن ثم فأناس هذا المكان، والمُتحقِّق وجوده بهم، لا يختلفون عنه في شيء، أناس عاديون، يمارسون مِهَناً غاية في البساطة، يحضرون إلى النص، دون محاولة من الكاتب أن يُضفي سيمترية جمالية على سلوكهم، أو لغتهم، أو حتى ألقابهم مثل «رمضان الفطاطري» أو «الهرم تاجر المخدرات»، أو يسعى إلى مداراة قبح جمالهم وعاهاتهم بعبارات مُنمَّقة، أو أوصاف تبتعد عن المبتذل واليومي، بل على العكس من هذا كله، فالأشخاص حاضرون من الواقع بآدميتهم وأوصافهم، من دون أن يعبأ أصلان ­عند نسجهم ­ بنظريات مقولبة، أي أن المؤلف لم يحاول أن يجعل شخصياته في خدمة النص الأدبي، بل جعل النص في خدمة شخصياته.
حضر «الشيخ حسني» بعاهته البصرية التي لم تمنعه من مواصلة الحياة، بل أقنع نفسه بأنه لم يخسر شيئاً، وأقنع الجميع بأنه يرى بالفعل، ومن ثم ركب «سيكل» مثله مثل أي مُبصر، حتى سقط في الماء، ورغم سقوطه، فإنه كرَّر المحاولة مع «ماكينة» سليمان الصائغ دون خوف من النتيجة، أيضاً هناك العم مجاهد (بائع الفول)، الذي مات في دكانه من دون أن يحس به أحد، مثله مثل كل المنسيين والمقهورين في الرواية الذين تعلَّقوا بذيل الحياة وأهدابها، ولم تمنحهم نظرة عدل واحدة، ليضعنا أصلان أمام نوع شديد من واقعية الشخصيات التي لا تضع حياتها موضع السؤال، رغم كل ما تكابده في حياتها الشاقة، ولا تأبه حتى بالمصير، بل هي شخصيات تقتنص لحظة حياتها ووجودها من دون أن تعبأ بأي ثمن.

رسائل مخفية
تنهمك كل الشخصيات في حياتها اليومية، وتراوغ الظروف العصيبة وغير الآدمية التي تحيا فيها من دون التفات لأسئلة الخير والشر والعدل، فهي شخصيات مهمشة ومتعددة ذات حضور ضعيف، ومن دون فاعلية كبيرة في سير الأحداث أو تغيير دفة الرواية، تماماً كما هي في الحياة الواقعية، ولعل ذلك يعكس ثراء النص وخواء العالم في آنٍ واحد.
وأراد المؤلف أن يبعث برسائله المخفية عبر ثلاثة أحداث مهمّة، هي نزول المطر في مستهل الرواية، وفي ختامها، كفعل رمزي تطهّري باعث على الخير والأمل في المستقبل، ثم موت العم مجاهد (بائع الفول) الصامت الذي ينتمي للجيل الأسبق النقي والشهم، والذي شغل موته شخوص الرواية وعلى مدار أحداثها، ربّما كإشارة إلى تلاشي هذا الجيل الطيّب أو لتبيان مدى تضامن أهل الحي وتكاتفهم في الأحزان، بالرغم مما استجد من نزعة الخلاص الفردي والصراع لأجل الحياة.
أما المستوى التالي الذي ينبغي التوقّف عنده، فهو الإنذار بإخلاء المقهى لأجل إقامة بناية مكانه، وهو المكان الوحيد المتبقّي لأهل الحيّ ليتسامروا فيه ويكشفوا من خلال أحاديثهم عما يجري من أحداث، ليصبح الكلّ سارداً للحكاية التي دامت أحداثها فعلياً من لحظة وفاة العم مجاهد وحتّى إقامة مجلس العزاء له.

اغتراب ووحدة
عندما نصل إلى نهاية الرواية، نعي لماذا كتب أصلان بتلك اللغة المقتضبة والغاضبة وغير العابئة، فقد أتت شخصيات الرواية كلها من اللا مكان إلى «الكيت كات»، بعد أن استولوا عليه من أصحابه القدامى، ليذهبوا مثلهم مثل العم مجاهد ويوسف النجار وعبد الله القهوجي إلى مكان آخر، بعد أن يشتري المعلم صبحي «الفرارجي» أغلب بنايات الحي، ومن ثم فإن قصصهم -تماماً مثل حيواتهم- هامشية وجزء من حياة شاقة ومؤقتة بلا جذور، ولا أثر يُذكر لها إلا في نفوس أصحابها، وهذا يتضح في مسيرة حياة «الشيخ حسني»، الضرير الذي يعيش في المنطقة ويعاني من اغتراب ووحدة، ويحاول أن يتكيف معها بطرق طريفة ومضحكة، وابنه «يوسف» الشاب المثقف والعاطل والمغترب عن المجتمع، ليصبح وحيداً وحزيناً وحالماً بالسفر إلى الخارج هرباً من الضياع وواقعه المؤلم، أما «فاطمة»، هذه الفتاة البسيطة والفقيرة التي تحب يوسف من طرف واحد، كذلك تظهر «والدة الشيخ حسني» في ثوب الجدة البسيطة التي تعيش على هامش الحياة، ولا تتعدى معرفتها بأمور الدنيا جدران شقتها المتواضعة، وغيرها من الشخصيات التي تصارع طواحين الهواء، من أجل الحياة القاسية التي دهستهم تحت أقدام الفقر والقهر.

إلى الشاشة
عرفت رواية «مالك الحزين» طريقها إلى شاشة السينما عام 1991، في فيلم بعنوان «الكيت كات» من إخراج وسيناريو داوود عبد السيد، وثمّة فارق جليّ بين كتابة الروائيّ أصلان وكتابة المخرج داوود البصرية الذي ركّز على الكوميديا من خلال شخصية «الشيخ حسني» ومغامراته المسلية، وعلى جاذبية أدائه وما اجترحه من مواقف درامية وكوميدية.
الفيلم من بطولة محمود عبد العزيز (الشيخ حسني)، أمينة رزق (أم حسني)، شريف منير (ابن الشيخ حسني)، عايدة رياض (فاطمة)، نجاح الموجي (الهرم)، علي حسنين (الشيخ عبيد الكفيف)، أحمد كمال (سليمان الصايغ)، جيهان نصر (روايح وزوجة الصايغ)، ونادر عبد الغنى (صبحي الفرارجي)، وغيرهم.
احتل «الكيت كات» المركز الرابع والعشرين في قائمة أفضل مئة فيلم في مئوية السينما المصرية، حسب استفتاء النقاد عام 1996، كما حصل الفيلم على الجائزة الذهبية لأحسن فيلم من مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 1991، وحظي باهتمام نقدي وجماهيري فاق التوقعات، حيث استمر عرضه بدور السينما لأكثر من 20 أسبوعاً.

رفض وإنكار
وتدور أحداث الفيلم في حواري «الكيت كات»، حيث يعيش الشيخ حسني، مع أمه وابنه، ورغم فقدانه بصره وعمله وزوجته، إلا أنه لم يفقد الأمل، ولم يسلم بأنه أعمى، فهو يستغل دكاناً بالمنزل الذي تركه له والده ليدخن فيه المخدرات مع أصحابه، ويغني لهم على العود بعد أن فشل في دراسته الأزهرية، مثلما فشل في أن يصبح منشداً، وذات يوم يصطدم حسني بالشيخ عبيد الكفيف، ويصحبه للسينما لمشاهدة فيلم أجنبي، ويركب معه «فلوكة» بالنيل، في محاولة من جانب بطل الفيلم لإقناع نفسه بأنه ليس كفيفاً، لرفضه للواقع بداخله، لتتوالى المشاهد الكوميدية، من استغلاله الدراجة البخارية لسليمان الصايغ، ودهس عدد كبير من أهل الحارة، ومروراً بهروبه من رجال الأمن لحظة القبض عليهم داخل دكانه هو وأصدقائه خلال تدخين المواد المخدرة، وحتى قيادته «موتوسيكل» بصحبة ابنه في نهاية الفيلم وسقوطهما في النيل، لكنهما خرجا سالمين في مشهد كوميدي، يؤكد استمرار الشيخ حسني في رفضه للواقع، وإنكاره حقيقة فقدانه للبصر.

إبراهيم أصلان.. الأديب الشعبي
إبراهيم أصلان (3 مارس 1935 - 7 يناير 2012) أحد أبرز كتاب جيل «الستينيات» في مصر، وُلد بقرية «شبشير الحصة» التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية، ونشأ وتربى في القاهرة وتحديداً في حي إمبابة والكيت كات، وقد ظل لهذين المكانين الشعبيين الحضور الأكبر والطاغي في كل أعمال الكاتب.
لم يحقق أصلان تعليماً منتظماً منذ الصغر، فقد التحق بالكتّاب، ثم تنقل بين عدة مدارس حتى استقر في مدرسة لتعليم فنون السجاد، لكنه تركها إلى الدراسة بمدرسة صناعية، ثم التحق في بداية حياته بهيئة البريد وعمل لفترة كـ «بوسطجي» ثم في إحدى المكاتب المخصصة للبريد، وهي التجربة التي ألهمته مجموعته القصصية «وردية ليل»، ربطته علاقة جيدة بالأديب الراحل يحيى حقي ولازمه حتى فترات حياته الأخيرة، ونشر الكثير من الأعمال في مجلة «المجلة» التي كان حقي رئيس تحريرها في ذلك الوقت، كما التحق في أوائل التسعينيات كرئيس للقسم الأدبي بجريدة الحياة اللندنية، إلى جانب رئاسته تحرير إحدى السلاسل الأدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، إلا أنه استقال منها، وتوفي في 7 يناير من عام 2012 عن عمر يناهز 77 عاماً.
ومن رواياته «عصافير النيل»، «حجرتان وصالة»، و«صديق قديم جداً».. أما عن أهم مجموعاته القصصية، فمنها «بحيرة المساء»، «يوسف والرداء»، «وردية ليل»، و«الكنيسة نورة»، كما أن له كتابات أخرى، منها «خلوة الغلبان»، و«حكايات من فضل الله عثمان».
وقد حصل إبراهيم أصلان على عدد من الجوائز منها: جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية «مالك الحزين» عام 1989، جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام (2003 – 2004)، جائزة كفافيس الدولية عام 2005، جائزة ساويرس في الرواية عن «حكايات من فضل الله عثمان» عام 2006، وجائزة النيل للآداب عام 2012.