سلطان الحجار (أبوظبي)
أحداث رواية «دكتور زيفاغو»، للكاتب والشاعر الروسي بوريس باسترناك (1890 - 1960)، تجري بين عامي 1903 و1929، وهي أعوام الضياع والاضطرابات في روسيا، حيث تدوّن لنا قصة الثورة البلشفية من وجهة نظر تلك الشخصية المثقفة والمتعمقة في فهم النفس البشرية، وهو الطبيب والشاعر يوري زيفاغو، الذي ولد أواخر القرن التاسع عشر، وأنهى دراسة الطب أثناء الحرب العالمية الأولى.
يتغير المشهد السياسي ويسقط نظام القياصرة الروس، لتعكس علاقات دكتور زيفاغو الاضطراب السياسي الذي كان يسيطر في جميع الأوساط نتيجة أحداث الثورة وكذلك الحرب العالمية الأولى، التي كانت تدور رحاها في تلك الفترة، وتركز الرواية على ماذا يحصل للناس الذين تجرفهم الأحداث السياسية دون أن تكون لهم القدرة على إحداث أي تغيير فيما يدور حولهم، وكيف تتغير المواقف وتتبدل الأفكار بين الثوار قبل السلطة، والثوار بعد السلطة، وماذا تفعل السلطة بالبشر؟
نُشرت رواية «دكتور زيفاغو» في روما عن طريق ناشر إيطالي عام 1954، حيث لم يقبل الناشرون الروس نشرها في موسكو، لأنهم رأوا فيها موقفاً أيديولوجياً مناهضاً للثورة الروسية ما يضع «باسترناك»، في موقع المعارض أو حتى المنشق، أو هكذا أراد بعض الكتاب الروس موضعة «زميلهم» الذي كان يحبه ستالين إلى درجة أنه أنقذه من الاعتقال والنفي، عندما حذف اسمه من قائمة مطلوبين سياسيين قُدّمت إليه، فما كان من ستالين إلا أن قال عبارة شعرية مستوحاة من روح باسترناك هي: «لا تلمسوا ساكن الغيوم هذا».
القصة متعددة الطبقات بدأت بموت والدة زيفاغو، أما والده الصناعي الغني، فانتحر جراء التأثير المحبط الذي مارسه عليه محاميه، ليتزوج زيفاغو قبل الحرب العالمية الأولى من امرأة جميلة ويعيشا حياة مرفهة سعيدة، في أثناء ذلك تظهر امرأة اسمها «لارا»، حيث إن عشيق والدتها الجنرال «كوماروفسكي» يحاول إغواءها ولكنها تتخلص منه بالزواج من شاب مثالي، لكنه يتركها لاحقاً، وأثناء الحرب العالمية الأولى تتطوع «لارا» للعمل كممرضة وتلتقي بالدكتور زيفاغو الذي كان يخدم في الجيش كطبيب، فتربطهما قصة حب جارفة تنتهي بنهاية الحرب.
رحلة الشك
عند اندلاع الثورة الروسية يلجأ زيفاغو وزوجته إلى قرية في الريف الروسي في منطقة الأورال، ويلتقي مرة أخرى بـ«لارا» التي كانت تبحث عن زوجها في نفس المنطقة لتتفجر مرة أخرى مشاعر الحب والحنان التي كانت تجمعهما، والتي تتعرقل مرة أخرى بسبب أحداث الثورة، وبسبب الجنرال «كوماروفسكي» الذي حاول إغواء «لارا» من قبل.
وبعد مرور فترة من الوقت وانتهاء الحرب، يرجع يوري زيفاغو إلى موطنه مدينة موسكو وإلى أصحابه القدامى، إلا أنّ الأشخاص الذين يعملون معه في تلك المدينة أصبحوا على الدوام يشككون به، وذلك لأنه كان أثناء الحرب تحت وطأة تأثير البولشيفية، ومن ذلك الوقت توجه يوري زيفاغو إلى الاعتماد على حدسه بدلاً من الاعتماد على المنطق، وفي تلك الأثناء انقسم الثوار الماركسيون، وهذا ما جعل أسرة زيفاغو تضطر إلى الانتقال على متن أحد القطارات الذي يُستخدم من أجل نقل البضائع.
كانت مدة الرحلة عبر القطار طويلة، وهذا ما أتاح ليوري زيفاغو الوقت الكافي لإبداء ردة الفعل، حيث إنه أثناء الرحلة كان يشعر بالأمور الحسية من حوله، إذ يشاهد أمام عينيه المعاناة التي يعيشها سجناء الثورة الروسية، ومنذ تلك اللحظة بدأ زيفاغو يسير على مبدأ المساواة والعدل والحرية، وهنا تحرر من المبادئ الثورية غير الفكرية.
خيانة
وبعد أن وصلت عائلة يوري بأمان إلى مدينة الأورال حتى استقرت في إحدى المزارع، وفي ذلك الوقت يقوم زيفاغو باستغلال الأيام التي يصبح فيها الشتاء طويلاً ومستمراً من أجل العودة إلى كتابة الشعر، وفي أحد الأيام وبينما كان يقوم بإحدى الزيارات المحلية يلتقي مرة أخرى بالفتاة «لارا»، وسرعان ما تنشأ علاقة عاطفية بينهما، وقد كانا يتشاركان كل شيء سوياً بكل بهجة وحب، ومع مرور الأيام اعترف زيفاغو لزوجته أنه خانها ولم يكن مخلصاً لها، بعد أن أقام علاقة مع فتاة أخرى، وبكل خضوع وندم طلب منها السماح.
وفي أحد الأيام بينما كان عائداً إلى بيته تعترضه مجموعة من الأشخاص من الذين كانوا مشاركين في الحرب الأهلية الروسية، حيث قاموا بخطفه وإجباره على العمل في خدمتهم كطبيب، وكان قد مكث عندهم عدة سنوات إلى أن جاء اليوم الذي تمكن فيه من الهروب وعاد إلى «لارا»، وفي تلك الأثناء تكتشف زوجته بأنه لم يعد في مخيم السجن وأنه قد فرّ من المكان وأنه قام بتغيير اسمه إلى اسم آخر هو «ستريلنك»، كما أنه أصبح عضواً مهماً في الحكومة الجديدة المحصنة، وبالرغم من أنه كان مستقراً هناك لفترة قصيرة، إلا أنه لم يسأل عنها أو عن ابنته، ولا حتى قام بزيارة لها، حيث إنه قرر إنهاء المهمة الموكلة له في البداية.
حب وخوف
انتقل كل من «لارا ويوري زيفاغو» للعيش معاً في أحد المنازل، لكنهما اكتشفا بأنهما تتم ملاحقتهما من قِبل أشخاص غير معروفين، وهنا عزما على السفر إلى إحدى المزارع التي كان يوري زيفاغو قد عاش مع أسرته فيها في السابق، وفي تلك الأثناء عاد من جديد إلى كتابة الشعر، ليعبر من خلاله عن المخاوف التي تعتريه والشجاعة التي يتحلى بها، بالإضافة إلى حبه الشديد إلى «لارا»، وهذه المخاوف التي كانت تعتريه، جراء ظهور حبيب لارا القديم «كوماروفسكي»، والذي بدوره أخبره أنّ الثوار يعلمون المكان الذي يختبآن به وبأنهم عازمون على قتلهما، وقدم لهما نصيحة بأن يقوم باصطحابهما إلى الخارج، وفي ذلك الوقت كان بإمكان يوري زيفاغو الرجوع إلى أسرته نظراً لاشتياقه لها، لكنه يرفض ذلك من أجل حماية حياة لارا، وبالرغم من ذلك وافقت لارا على مرافقة كوماروفسكي للوصول إلى بر الأمان، وهنا وعد زيفاغو لارا بأنه سوف يلحق بها ولن يتركها على الإطلاق، وفي أحد الأيام شعر كوماروفسكي بمدى حب يوري زيفاغو ولارا، وأنه لا يقوى أحدهما على فقدان الآخر، وعلى إثر ذلك عزم على الانتحار بعد أن فشل في الوصول إلى قلب لارا.
سعادة مفقودة
يعود الدكتور زيفاغو إلى موسكو عام 1922 ليعيش في فقر مدقع، ومع مرور الأيام يشعر في أحد الأيام بالغثيان متأثراً بكل ما يدور حوله، حين يكون في عربة الترام وبلحظة خاطفة قاتلة يلمح عن بُعد حبيبته «لارا» تسير على الرصيف المحاذي للشارع الذي يعبره الترام، حاول اللحاق بها لاهثاً وراءها كحلم، ودون أن يتسنى له لفت انتباهها، ودون أن تدرك هي أنه حبيب عمرها كان وراءها على مسافة بضع خطوات، وقع أرضاً وباغتته سكتة قلبية ليموت على الرصيف الذي كانت قد عبرته «لارا» لتوها، هكذا عبّر لنا «باسترناك» عن لهاثنا المخيف وراء السعادة المفقودة.
الرواية ملحمة رومانسية شاملة، تجسد قصة الحب وتلامس آلام الثورة بمشاهد رائعة وتأسرنا بطبيعة موسكو الخضراء قبل الحرب والثورة الاجتماعية العنيفة التي حدثت، وبسبب الانتقاد الشديد الموجه للنظام الشيوعي، حققت أصداء واسعة سلباً في الاتحاد السوفييتي، وإيجاباً في الغرب، رغم أن أحداً من النقاد السوفييت لم يكن قد اطلع على الرواية إلا أنهم هاجموها بعنف، بل وطالبوا بطرد باسترناك.
التوق إلى العدالة
في «دكتور زيفاغو» تعتبر الفلسفة والأدب والطب كلاً متكاملاً، ففي كل منها مجال للتعبير عن حبه واحترامه للحياة في كل تلك الميادين، هو غير عقائدي وغير منطقي لكنه يتوق إلى العدالة، إنه يقدر الخبرة الحسية ويفضلها على تلك العقائدية أو النظرة المنطقية للأمور، وهو يكرر نظرته إلى العالم في حبكة الرواية، تظهر شخصيته مجدداً وترتبط الأشخاص والأحداث ببعضها لتمول نزاع الحرب، وتبدو الثورة كأنها مجرد اعتراض لبرنامج ما، وبرغم ذلك، هذا الاعتراض كان كافياً لإنهاء حياة يوري.
الكاتب في الرواية أراد توضيح أن الحب لا يمكن أن يتغير على الرغم من الظروف التي يمر بها المحبون، وقد جسد ذلك في العلاقة بين يوري زيفاغو ولارا، فعلى الرغم من تباعدها لفترات عدة متقطعة، إلا أن ذلك لم ينه الحب بينهما.
على الشاشة
«دكتور زيفاغو»، رواية تحولت إلى فيلم ملحمي درامي رومانسي من إنتاج عام 1965، إخراج ديفيد لين وسيناريو روبرت بولت، بطولة عمر الشريف الذي قام بدور «يوري زيفاغو»، جولي كريستي «لارا»، إضافة إلى مشاركة جيرالدين تشابلن، توم كورتيناي، وأليك غينيس، وغيرهم.
تدور أحداث الفيلم في روسيا بين السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية (1918-1922)، وهو مبني على رواية تحمل نفس العنوان للكاتب بوريس باسترناك، ولأن الكتاب كان محظوراً في الاتحاد السوفييتي لعقود، لم يكن هناك مجال لإنتاج الفيلم في الاتحاد السوفييتي، لذلك صُوّر في إسبانيا. ويتحدث الفيلم عن قصة «يوري زيفاغو» وهو طبيب متزوج تغيرت حياته نتيجة الثورة الروسية والحرب الأهلية اللاحقة، وحبيبته المتزوجة «لارا»، وكيف بدأت قصة الحب بينهما، وكيف افترقا في ظروف غامضة، ليعودا مرة أخرى إلى بستان العشق ضمن أحداث ممزوجة بالحب والأمل والألم وويلات الحروب.
وفي حفل توزيع جوائز الأوسكار الثامن والثلاثين، فاز فيلم «دكتور زيفاغو» بـ(5) جوائز أوسكار، هي: جائزة الأوسكار لأفضل كتابة (سيناريو مقتبس)، جائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية، جائزة الأوسكار لأفضل تصوير سينمائي، جائزة الأوسكار لأفضل تصميم إنتاج، وجائزة الأوسكار لأفضل تصميم أزياء. كما فاز الفيلم أيضاً ب(5) جوائز في حفل توزيع جوائز الغولدن غلوب الثالث والعشرين، بما فيها جائزة أفضل فيلم دراما، وأفضل ممثل في فيلم دراما، التي كانت من نصيب عمر الشريف.
قائمة الـ100 فيلم
اعتباراً من عام 2016، كان «دكتور زيفاغو» الفيلم الثامن الأعلى ربحاً على الإطلاق في الولايات المتحدة وكندا، وصُنف في عام 1998 من قبل معهد الفيلم الأميركي في المرتبة التاسعة والثلاثين ضمن قائمة 100 عام و100 فيلم، ومن قبل معهد الفيلم البريطاني في العام التالي في المرتبة السابعة والعشرين بين أفضل الأفلام البريطانية على الإطلاق.
باسترناك.. يرفض «نوبل»
بوريس باسترناك (1890 - 1960)، كاتب وشاعر روسي، عرف في الغرب بروايته المؤثرة عن الاتحاد السوڤييتي «دكتور زيفاغو»، لكنه يشتهر في بلاده كشاعر مرموق.. درس في كلية الآداب والتاريخ في جامعة موسكو، وحين اهتم بالفلسفة سافر في 1912 إلى ألمانيا لدراسة الفلسفة في جامعة ماربورج، وولد في موسكو لأب كان يهودياً وتحول إلى الكنيسة الأرثوذكسية، وهو رسام متميز وأستاذ في معهد الفنون، أما والدته فكانت عازفة بيانو شهيرة، وخلال الحرب العالمية الأولى، عمل باسترناك ودرس في مختبر للكيميائيات في الأورال، وهي التجربة التي ستقدم له مادة أولية خصبة سيستخدمها لاحقاً في روايته «دكتور زيفاغو»، وعلى العكس من الكثيرين من أبناء طبقته وأصدقائه وأقاربه الذين تركوا روسيا بعد الثورة البلشفية، فإنه بقي في بلاده وقد أبهرته شعاراتها وهزّه حلم التغيير عبر الثورة، وتعتبر مجموعة باسترناك الشعرية «حياتي الشقيقة»، من أهم المجموعات الشعرية التي كتبت بالروسية في القرن العشرين.
وفي عام 1958 مُنح باسترناك جائزة نوبل للآداب، وهو الكاتب الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل عن رواية واحدة، كما ذكرت لجنة الجائزة حينها «إن سبب منح باسترناك الجائزة يتمثل في القيمة الفنية لرواية دكتور زيفاغو»، لكن باسترناك رفضها (رغماً عنه)، وصدر مؤخراً كتاب عنوانه: «دكتور زيفاغو بين المخابرات الأميركية (CIA)، والمخابرات الروسية (كي جي بي)»، لباحث يكشف فيه أسرار تدخل وكالة المخابرات الأميركية بالتعاون مع نظيرتها البريطانية للدفع في اتجاه فوز رواية «دكتور زيفاغو» بجائزة نوبل، حيث تؤكد وثائق الكتاب أن المخابرات الأميركية، كانت وراء ترجمة الرواية إلى أكثر من 40 لغة عالمية.