سلطان الحجار (أبوظبي)

«الحب في زمن الكوليرا»، رواية للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، نُشرت الرواية للمرة الأولى باللغة الإسبانية عام 1985، وتُرجمت للإنجليزية عام 1988، وتحولت إلى فيلم باللغة الإنجليزية عام 2007.
تدور أحداث الرواية حول قصة حب بين رجل وامرأة منذ المراهقة، وحتى ما بعد بلوغهما السبعين، وتصف ما تغير حولهما وما دار من حروب أهلية في منطقة الكاريبي، وتأثيراتها على نهر مجدولينا في الفترة من أواخر القرن التاسع عشر، وحتى العقود الأولى من القرن العشرين، كما ترصد بدقة الأحوال في هذه المنطقة من العالم من حيث الأحوال الاقتصادية والأدبية والديموغرافية من دون التأثير على انتطام الأحداث وسيرها الدقيق، مما يضعنا أمام كاتب يمسك بأدواته الإبداعية بشكل استثنائي، ليمنح هذه الرواية كل ما يملكه من نبوغ في السرد القصصي وسعة الخيال.

في نهاية القرن التاسع عشر في قرية صغيرة في الكاريبي، تعاهد عامل تلغراف «شاب فقير»، وتلميذة رائعة الجمال على الزواج، بعد أن وقعا في الحب وتمكن العشق من قلبيهما الأخضر، لكن الفتاة الحسناء «فيرمينا داثا» تزوجت من «خوفينال أوربينو» الطبيب اللامع الذي يفيض شباباً، حينئذ جاهد المحب المهزوم «فلورينتينو» لكي يجعل له اسماً لامعاً ويكّون ثروة حتى يكون جديراً بمن أحبها، والتي لم يكف عن حبها طوال أكثر من خمسين عاماً حتى ذلك اليوم الذي ينتصر فيه الحب. 
الخط العام للرواية يروي إصرار «فلورنتينو اريثا» على الوصول لهدفه في الزواج من «فيرمينا داثا»، وإخلاصه لهذا الهدف، رغم أننا في مرحلة ما من خلال الأحداث، نظن أن ذلك شبه مستحيل، فهو يتعجل ويسارع لتقديم عهد الحب لـ«فيرمينا» في نفس يوم وفاة زوجها، مما يجعلها تطرده وتكيل له الشتائم، لكنه لا يفقد الأمل ويستمر في محاولة كسب صداقتها بطريقة عقلية، حيث لم تعد الرسائل العاطفية لها من تأثير مع امرأة في السبعين.

بداية القصة
رأى «فلورنتينو» هذه الحسناء «فيرمينا»، للمرة الأولى في عصر يوم كُلّف فيه بإيصال برقية إلى شخص بلا عنوان واضح اسمه لورينثو داثا، والد فيرمينا، وبعد الانتهاء من تسليم البرقية أدرك فلورينتينو أن هناك أحداً آخر في البيت، ولدى مروره مقابل حجرة الخياطة رأى عبر النافذة امرأة مسنّة وصبية تجلسان على مقعدين متجاورين، وكلتاهما تتابع القراءة من الكتاب ذاته الذي تحمله المرأة مفتوحاً في حضنها، لكن الصبية رفعت نظرها لترى مَن الذي يمر عبر النافذة، وكانت هذه النظرة العابرة أصل كارثة حب لم تنتهِ بعد مرور نصف قرن من الزمان، ضمن حالة من الحب غير المعقول، في قالب روائي شائق، يجمع بين شجون العشق ولوعته ولعنة الحرب وقسوتها، لتحمل في داخلها وصفة سحرية للحب الأبدي، وتفاصيل دقيقة لتلك المنطقة من العالم.

لعنة الحب
تستمر الحكاية في بدايتها بطريقة عادية من دون أي مفاجآت محتملة، حيث يعيش العاشقان تحت رحمة حب مثالي ومستقر لأعوام عديدة، يتبادلان خلالها الرسائل الغرامية الملتهبة، والورود الملونة، والوعود بالبقاء، ويتعاهدان على الزواج، إلى أن تحل عليهما اللعنة ويتحول حبهما بين ليلة وضحاها إلى جحيم لا يطاق، فبعد معرفة والد فيرمينا بالأمر، قرر مغادرة المدينة إلى الأبد هروباً من العار الذي قد يلحق به، ومفكراً في العثور على زوج مناسب لابنته المراهقة التي حولها الحب إلى كائن متمرد، وهنا يُمثّل لورينثو داثا، والد فيرمينا في الرواية، صورة المجتمع المحافظ الذي يرفض العلاقات بين الجنسين ويراها خطيئة كبرى وذنبا لا يُغتفر، ويستغل ماركيز هذه الشخصية الروائية المحافظة التي تمارس نظاماً أبوياً متزمتاً لينفرد بالسلطة المطلقة، سلطة تمكّنه من التحكم بأي شيء حتى العواطف، نتيجة رفض المجتمع للعلاقات الغرامية بصورة واضحة، فهذا الأب يرى في الحب دون غطاء اجتماعي، أمراً يجلب البؤس وسوء السمعة.
وعندما اكتشف الأب أن شقيقته «اسكولاستيكا»، التي كانت ترافق «فيرمينا» إلى المدرسة على مدار سنوات طويلة، كانت السبب وراء وقوعها في حب عامل التلغراف، اتخذ قراراً بطرد شقيقته من البيت، حيث لم يسمح لها بنعمة الاعتذار، وإنما أجبرها على الإبحار من دون استئناف في مركب إلى سان خوان دي لا ثييناغا، وهناك لاقت مصيرها في محجر صحي.

عاشق مهزوم
ومع استمرار قصة الحب المعقدة هذه، يأخذ فيها «فلورينتينو» دور العاشق الولهان، بينما تأخذ «فيرمينا» دور الفتاة التي يمنعها والدها عن الحب، ويسد كل المنافذ والطرقات التي تؤدي إليه، لتأخذ الأحداث منحى آخر، حينما تتزوج فيرمينا بالدكتور خوفينال أوربينو، الطبيب اللامع الأكثر شهرة في المنطقة، ومن ثم تجبرها ظروفها الاجتماعية، وضغوط والدها المتسلط، وقدسية الزواج الكاثوليكي، على التنازل عن حبها وحبيبها عامل التلغراف المسكين في مشهد مأساوي وحزين.
في غضون تلك الأحداث، يعمل العاشق المهزوم «فلورينتينو» بكد وجهد حتى يصنع له اسماً لامعا ويكوّن ثروة مالية ضخمة ومكانة اجتماعية مرموقة، تمكّنه من استعادة حبيبته، رغم أنها أصبحت زوجة رجل آخر، وتعيش حياتها الخاصة برفقة زوجها وأبنائها مثلما يعيش هو برفقة والدته، ومثلما يعيش وباء الحب القاتل بينهما إلى الأبد.
وبعد سنوات من الانقطاع عن فيرمينا، أصبح تفكير فلورينتينو بها يتعاظم يوماً بعد يوم لدرجة أنها أصبحت ترافقه أينما يذهب، فيراها سرابا في شوارع المدينة القديمة، وداخل أروقة المقاهي، وداخل شركة الكاريبي للملاحة النهرية التي يعمل فيها بوظيفة مرموقة، وفيما بعد، حين نقلوه لأداء أعمال أخرى كانت دواخله تفيض حبًّا لا يدري ما يفعل به، فراح يُهديه إلى العاشقين الذين لا يتقنون الكتابة، لنجد أنفسنا أمام رجل يعيش تجربة حبه المستحيلة من خلال قصص الآخرين وتجاربهم، ويُعبّر عن حبه الضائع عبر كتابة الرسائل لغيره، رسائل حب مختلفة، لأشخاص مختلفين، وعشاق يتألمون فيطيّب جراحهم، وعاشقَين ضائعين فيقودهما إلى النور بخبرته، ليبعث الأمل في نفوس البائسين، والمحبطين، ويلوّن حياة العشاق برسائل حب تبعث على الجنون، وكأنه يريد أن يُبقي حبه قائماً ومشتعلاً في داخله.
تتشابك أحداث الرواية وتتداخل بطريقة مشوقة، إلى أن يلتقي الحبيبان أخيراً في جنازة الدكتور خوفينال أوربينو، زوج فيرمينا الذي مات تحت شجرة المانجا محاولاً الإمساك ببغاء، وكان وقتها قد مر أكثر من نصف قرن من الزمان على آخر لقاء بينهما، فينتهز فلورينتينو الفرصة قائلاً للمرأة التي مات زوجها للتو: «فيرمينا.. لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي وحبي الدائم».

الحب لذاته 
يرسل «فلورينتينو» لها رسائل عبارة عن تأملات في الحياة والزواج والشيخوخة، فتنال رضاها، وتبدأ في تقبله كصديق شيئاً فشيئاً، وتتبادل معه الأحاديث والتأملات، فيما لا زال هو يرى فيها الحبيبة رغم تبدل مظهرها وذبولها وتجاوزهما عمر الـ70 عاماً، ويتصادقان مع تشجيع ابنها الذي يفرح لأن أمه وجدت رفيقاً من عمرها يتفاهم معها، ولكن مع نقمة ابنتها التي ترى الحب في هذه السن (حماقة)، تضطر الأم لطردها من بيتها.
مع اقتراب أحداث الرواية من النهاية، داخل سفينة تمتلكها شركته يدعو «فلورنتينو» حبيبته لرحلة نهرية، فتوافق، وهناك يقترب منها أكثر وتدرك بأنها تحبه رغم تقدمها في العمر، وشعورها بأنها باتت لا تصلح للحب، ولكن هذا لم يمنع «فلورنتينو» من الأمل وعشقه لها، فيتخلص من المسافرين على متن السفينة بخداعه لهم، بعد زعمه بأن السفينة انتشر على متنها «وباء الكوليرا» لكي تنتهي الرحلة ويتخلص منهم  تنتهي الرواية والسفينة تعبر النهر ذهاباً وإياباً رافعة علم «الوباء الأصفر» دون أن ترسو إلا للتزود بالوقود، فيما تضم عش الحبيبين اللذين لا يباليان بكبر عمرهما ويقرران أنهما الآن في مرحلة أفضل لوصول مرحلة «ما وراء الحب»، وهي «الحب لذات الحب»، لإحداث تأثير قوي في العلاقات العاطفية حيث تتناول الحب كقيمة عُليا تسيطر على حياة الأفراد، وتصحبهم في رحلة العمر الطويلة من أجل الاستمتاع بلوغ الحب وعذاباته.

حيرة وجنون
على خلاف قصص الحب التقليدية التي تضج بها أرفف المكتبات، فإن رواية «الحب في زمن الكوليرا» تسطر قصة حب مختلفة، ومشحونة بالمأساة، وقلة الحيلة، والتعلّق الذي لا ينتهي، تعلّق كلما شارف على نهايته تهب ريح الحب العاتية فتبقيه على الحافة، لا هو يسقط فينتهي، ولا هو يبقى فيستمر ويزدهر، تعلّق يضع الأبدية كأساس للعلاقات العاطفية، ويضع قانوناً مفاده «لكي تُنهي علاقة حب هناك قاعدة واحدة فقط، وهي ألّا تبدأها من الأساس».
هي رواية تسكنها الحيرة والجنون، هي ضرب من الخيال المنظم الذي يتجسّد أمامنا كحقيقة لا غبار عليها، نجد أنفسنا غارقين فيها منذ البداية وحتى النهاية.. فكل شيء وارد الحدوث، كل مستحيل في الحب يغدو مُمكناً في نظرنا، ونصبح على قناعة تامة بأن النص الروائي الذي بين أيدينا هو قصة حقيقية لشخصين حقيقيين عاشا بعيدين عن بعضهما، لكنّ كلًّا منهما أحب الآخر بطريقة ما، وأن نهاية القصة ما كان لها أن تحدث بأيّ شكل آخر، وأنه لا فرق واضح بين «داء الكوليرا» وداء آخر اسمه «الحب».

على شاشة سينما
وجدت رواية «الحب في زمن الكوليرا»، طريقها إلى السينما عام 2007، من خلال فيلم أخرجه مايك نويل، وكتب له السيناريو رونالدو هاروود، حيث بدأ تصوير الفيلم في كولومبيا في سبتمبر 2006، وقد نجح غارسيا ماركيز في إقناع المغنية «شاكيرا»، التي تعود لأصول كولومبية، لتقديم أغنيتين في الفيلم.
وكان هذا الفيلم من بطولة جوفانا ميدزوجورنو في دور (فيرمينا داثا)، خافيير باردم (فلورنتينو اريثا)، بنجامين برات (الطبيب خوفينال أوربينو)، وجون ليجويزامو في دور الأب (لورينثو داثا).
وتمتد الفترة الزمنية للفيلم منذ 1880 وحتى 1930، وتدور أحداثه في مدينة كاريبية على نهر ماغدالينا في كولومبيا إبان زمن الكوليرا، عارضاً قصة حب ملتهبة وحزينة دارت أحداثها في منطقة الكاريبي، حيث تعرّف شاب اسمه «فلورينتينو»، وهو في الثامنة عشرة من عمره، على صبية في مقتبل العمر تُدعى «فيرمينا»، وكان فلورينتينو يعمل «ساعياً للبريد»، ومشهوراً في مجتمعه بحكم وظيفته، ولكنه منغمس بأمور عملية شغلته عن الحب والعشق، إلى أن رأى «فيرمينا»، بينما كان يقوم بإيصال برقية لوالدها، فكانت هذه اللحظة هي شرارة الحب والعشق الذي لم ينته حتى بعد مرور نصف قرنٍ، كما يسرد الفيلم تفاصيل كثيرة لأحداث فترة الحرب الأهلية وقسوتها، ووباء الكوليرا الذي فتك بالناس، والأنكى من ذلك، قصة الحب العارمة بكل تفاصيلها من شجون وجنون العشق ولوعته.

ماركيز.. من أشهر كُتّاب الواقعية
غابرييل غارسيا ماركيز (6 مارس 1927 - 17 أبريل 2014)، روائي وصحفي وناشر وناشط كولومبي، حاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982، ولد في أراكاتاكا، ماجدالينا في كولومبيا، قضى معظم حياته بين المكسيك وأوروبا، ويعد من أشهر كُتّاب الواقعية العجائبية، فيما يعد عمله «مئة عام من العزلة» هو الأكثر تمثيلًا لهذا النوع الأدبي، وتُعد واحدة من أهم الأعمال في تاريخ اللغة الإسبانية، وتميز بعبقرية أسلوبه ككاتب وموهبته في تناول الأفكار السياسية، ويشتمل الإنتاج الأدبي لماركيز على العديد من القصص والروايات والتجميعات، إلى جانب كتابات أخرى، وتتناول الغالبية العظمى منه مواضيع مثل البحر وتأثير ثقافة الكاريبي والعزلة، وأهمها «ليس للكولونيل من يكاتبه»، و«خريف البطريرك»
ونال ماركيز العديد من الجوائز والأوسمة طوال مسيرته الأدبية مثل وسام النسر الأزتيك في عام 1982، وجائزة رومولو جايجوس في عام 1972، ووسام جوقة الشرف الفرنسية عام 1981، وتُوفي في مدينة مكسيكو بالمكسيك عن عمر ناهز 87 عاماً.