سلطان الحجار (أبوظبي)

رواية «أنا حرة» التى صدرت عام 1954،  واحدة من أشهر روايات الأديب الكبير الراحل إحسان عبد القدوس، وأحدثت دويّاً واسعاً وقت نشرها، حتى إن النقاد اعتبروها التطبيق العملي لأفكار قاسم أمين عن الحرية، وحرية المرأة بشكل خاص.
الرواية، قصة منتزعة من حياة إحسان، وأحداثها مستوحاة من حي العباسية الذي عاش فيه، ومن شخصيات عرفها بالفعل، وأفكار وآراء آمن بها، كما يعتبرها علامة من علامات طريقه الأدبي ومسيرته، ويتناول فيها قضية التمرد على المجتمع بأعرافه وتقاليده التي عفا عليها الزمن، وبطلة الرواية فتاة بسيطة تحاول ممارسة بعض الأمور العادية في حياتها، ولكن يقابل ذلك بالقمع من جهة أهلها بصورة مبالغ فيها، إلى أن تقرر البطلة التمرد على هذه الأوضاع ورفض سطوة أهلها، والانطلاق في مسيرة حياتها.. كل هذه الأحداث يصوغها إحسان بأسلوبه اللغوي الساحر الذي يجبرك على قراءة الرواية لأكثر من مرة.  يقول عبد القدوس ضمن سطور الرواية: «ليس هناك شيء يسمى الحرية وأكثرنا حرية هو عبد للمبادئ التي يؤمن بها، وللغرض الذي يسعى إليه، إننا نطالب بالحرية لنضعها في خدمة أغراضنا.. وقبل أن تطالب بحريتك اسأل نفسك: لأي غرض ستهبها؟!..

رواية «أنا حرة»، تروي قصة «أمينة»، الفتاة الثائرة على مجتمعها، والتي تصر على اقتناص حريتها، أهدافها، وطموحاتها، انطلقت من العباسية لتشق طريقها نحو الحرية.. بحثت عنها كثيراً... حتى ظنت أنها وجدتها.
هذه الفتاة العنيدة والمتمردة على مجتمعها وعاداته، نشأت في منزل عمتها رغم أن والدها ووالدتها على قيد الحياة، مما سبب لها فراغاً كبيراً في حياتها، وجعلها تسعى وراء حريتها وأحلامها حتى تنتهي إلى أن الحب هو فقط الطريق إلى الحرية، كثيراً ما كانت تذهب إلى الحقول في شارع «بين الجناين»، وفى كل مرة تعود من انطلاقها تستقبلها عمتها بالسباب والعقاب البدني، وكان أحياناً يتولى استقبالها زوج عمتها، وكانت في بادئ الأمر تبكي وتصرخ وتستغيث وهي تحت الصفعات والضربات الموجعة، ثم بدأت تتجرأ وتدافع عن نفسها وتصرخ وتصد الضربات بذارعيها وتجادل عمتها وزوج عمتها، وقد صاحت في وجههما يوماً: «أنا حرة.. ثم انهمرت دموعها بعد أن نالت عقابها.. فهل هي حرة، وهل يقدّر لها يوماً أن تكون حرّة بالفعل؟.. ومتى ستخرج من هذا السجن/ البيت؟ وإلى أين؟..

فيما وراء السطور
تحمل الرواية رسالتين: ظاهرة، وهي القراءة الأولى على سطح السطور، وباطنة، وهي التي يتجلى معناها فيما وراء السطور، وتمثل الرواية حقبة الثلاثينيات من القرن المنصرم، وتتناول قصة الفاتنة السمراء «أمينة» التي تسكن في شارع الجنزوري بالعباسية، وقد قدمت الرواية حياة البطلة في صورة تسلسل زمني تراتبي، حيث عرضت حياتها منذ مرحلة الرضاعة، حين انفصل أبواها، وكيف كانت أمها سيدة مغلوبة على أمرها؟، أما والدها فلا يملك ما يطعمها إياه، فتنازل عن حقه في الإرث لأخته، مقابل أن ترعى ابنته، وقد قبلت عمتها بذلك، ونشأت أمينة بين أبناء عمتها ووالديهم.
وتركز أحداث الرواية على فترة مراهقتها، مبرزة تطلعها للحرية، التي تتمثل في سعيها للاستقلال التام، وعدم الانصياع لأي شيء، وفعل كل ما تريده، من خلال تصوير تمردها على العادات والتقاليد، الذي يتمثل في بعض سلوكياتها، حتى أنها حين خرجت في الصباح ذات يوم للذهاب إلى المدرسة، استقلت حافلة أخرى إلى وسط البلد، وأخذت تتجول، حرة سعيدة، لكن سرعان ما أصابها الملل، ثم عادت إلى البيت وكأن شيئاً لم يكن.
في كل هذه المدة كانت أمينة مزهوة بجمالها، وكل أم في هذا الحي كانت تريدها لابنها، وكل شاب في العباسية كان مفتوناً بها، بيد أنها ترفض الجميع، ولم يلفت نظرها إلا ذلك الفتى «عباس»، الذي كان يعرض عنها ويتجاهلها، ولا ينظر إليها.
كانت عمتها تغصب منها في كل مرة ترفض عريساً، حتى أنها ذات مرة ادعت عمتها بأنها مريضة، لعلها تستدر عطف أمينة ويرق قلبها لتوافق على أحد العرسان، وفعلاً رق فلبها، لكنها لم توافق في النهاية..!

وهم الحرية
تتواصل الأحداث حتى حزمت أمينة أمتعتها وارتحلت للعيش عند والدها، وفي هذا الوقت كانت قد وصلت إلى سن الجامعة، لكنها عرضت عن الالتحاق بجامعة حكومية، والتحقت بالجامعة الأميركية، وسرعان ما مضت الأيام وتخرجت أمينة ثم التحقت بوظيفة في شركة، لتتذوق طعم الحرية، خلال حياتها المستقلة لدى والدها الهادئ الذي لا يقيدها بشيء، وكانت تحصل على راتب كبير من جهدها، لتشعر بحالة من الاستقلال التام، ولكن ماذا بعد ذلك؟..
دفعت الوحدة أمينة للاتصال بمكتب «عباس»، الذي أصبح صحفياً معارضاً ثورياً، والذي كثيراً ما تجاهلها في مرحلة المراهقة، وطلبت موعداً فوافق على طلبها، ثم تطورت اللقاءات بينهما، وكانا سعداء معاً، حتى انتهى المطاف بأمينة إلى السكن في شقة عباس، دون أن يرتبطا بالزواج، وخُيل لها في تلك اللحظة أنها سعيدة وتشعر باستقرار نفسي.
وهنا تمثل القراءة الأولى «الظاهرة» أن أمينة سعت لحريتها وحققتها، تلك الحرية التي كانت تتمثل بالاكتفاء بالذات والاستقلال من وجهة نظرها، وهي رسالة تطفو على سطح سطور الرواية، لكن الرسالة المبطنة تقلب المعنى رأساً على عقب، وتقلب هذه الرواية من كونها نموذجاً يجسد قوة المرأة إلى كونها نموذجاً يمثل هزيمتها، أو إن شئت فقل نموذجاً يمثل ضعفها الفطري وسط مجتمع ذكوري.
فالقراءة الباطنة، التي دسها المؤلف وراء السطور، هي أن أمينة سعت لحريتها وحققتها، لكن حين وصلت إليها وجدتها تجويفاً عميقاً من الوحدة، ولم تنسجم مع هذه الوحدة، بل كانت تصارعها أشد صراع، وبعد أن وصلت إليها باختيارها، فرت هاربة منها باختيارها، وما فرارها من الوحدة، إلا  فرارها من الحرية، التي جسدتها الرواية، فهي حين فرت منها كان الملجأ الوحيد هو بيت عباس، وكان عدم ارتباطها به كزوجة يحمل رسالة مبطنة أخرى، فلو ارتبطت به كزوجة لكان ذلك شأن البشرية وطبيعة الحياة، لكن من وجهة نظر الكاتب أن حياة أمينة لم تكن تحتاج لرجل، وهذا الاحتياج كان سيتمثل في الزواج، بل طبيعة أمينة هي من كانت تحتاج رجلاً تأوي إليه دون أن يسلبها حريتها أو يتحكم في مصيرها، وهذا ما تمثل في وصولها إلى الاستقرار في بيت عباس.

على شاشة سينما
وفى يناير 1959 قدم مخرج الواقعية صلاح أبو سيف رواية «أنا حرة» في فيلم سينمائي، سيناريو الأديب العالمي نجيب محفوظ، وحوار السيد بدير، بطولة لبنى عبد العزيز (أمينة)، شكري سرحان (عباس)، حسن يوسف (علي) الذي كان وقتذاك، وجهاً جديداً يظهر للمرة الأولى في السينما، زوزو نبيل (عمة أمينة)، حسين رياض (زوج عمة أمينة)، محمد عبدالقدوس (والد أمينة).
ودارت أحداث الفيلم حول «أمينة زايد» الفتاة المتمردة التي أدت دورها لبنى عبد العزيز، حيث تتمرد على نظرة المجتمع للمرأة وتكافح من أجل الحصول على حريتها المسلوبة بالتعليم والعمل، لكنها حين تصل إلى ما تريد تكتشف أن هناك معنى أعمق للحرية عما كانت تعتقد، بعد أن أحبت «عباس» الصحفي المناضل الثوري الذي أدى دوره شكري سرحان.
الفيلم يجسد التمرد على القيود الاجتماعية الذي يكون بعضها خانقاً للحرية، وبعضها الآخر قد يكون هداماً المجتمع إن تُرك وتم التخلي عنه، راصداً حرية الإنسان بشكل عام وحرية المرأة بوجه خاص، حيث ترى «أمينة» أن المرأة دائماً مقهورة، خاصة وأنها كانت تعيش تحت نيران استعمار ذكوري في بيت عمتها، وداخل مجتمع لا يعطي للمرأة حقها، لتتمرد على هذا الوضع، وتقوم بعمل أشياء يراها المجتمع من الأخطاء الجسيمة التي تسبح ضد تيار العادات والتقاليد الشرقية، لكنها لا ترى ذلك وتدخل الجامعة وتحصل على حريتها كاملة، لتكتشف ان أمانيها في الحرية هي أشياء بسيطة لمعنى الحرية الحقيقي، فتتقرب من «عباس» الذي ترى فيه المثل الأعلى للحياة التي تريدها، حيث يوجهها ويعلمها المعنى الحقيقي للحرية، لكن نتيجة عمل عباس في السياسة، كان مطلوباً من النظام الحاكم، ومع ذلك تعمل أمينة معه وتساعده بعد أن تؤمن بأفكاره، رغبة منها في الحصول على حرية أكبر، هي حرية وطن، لتكتشف في النهاية أن الحرية ليست ما كانت تبحث عنه طوال السنين الماضية، بل لها معنى أسمى وأكبر وأعظم عندما يتعلق الأمر بمصير وطنها، ومع ذلك تبقى البطلة حرة في اختيار نهايتها من خلال أحداث الفيلم.

إحسان.. بين نقيضين!
الكاتب إحسان عبد القدوس وُلد في 1 يناير عام 1919، في قرية صغيرة تابعة لمحافظة الشرقية المصرية تُسمى «الصالحية»، والده مصري الجنسية يُدعى محمد عبد القدوس، كان يعمل مهندساً في هيئة الطرق والكباري، وكان محباً للفن، أما أمه فهي السيدة فاطمة اليوسف والتي عُرفت فيما بعد بـ«روز اليوسف» وكانت لبنانية الأصل، وهي من أنشأت جريدة «روز اليوسف» المصرية.
نشأ إحسان عبد القدوس في بيت جده الشيخ رضوان شديد التدين، وفي ذات الوقت كانت والدته فاطمة اليوسف سيدةً متحررة وكانت تعقد في صالونها الأدبي ندواتٍ ثقافية وأحياناً سياسية، وكان يذهب إلى صالونها كبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن، ليجد إحسان نفسه حائراً بين جده الذي يعلمه دروساً دينية وهو صغير، ووالدته التي تقيم ندوات سياسية وثقافية مناقضة تماماً لما تعلمه عند جده، ليشعر بالدوار في ذلك الوقت، حتى اعتاد على الأمر بعد فترة وتأقلم معه.
في عام 1942م، تزوج إحسان عبد القدوس من سيدة تدعى «لواحظ المهيلي»، وكانت قليلة الظهور في الحياة العامة خضوعاً لرغبة زوجها، وأنجب منها صَبيين وهما أحمد ومحمد.
بدأ إحسان دراسة المرحلة الابتدائية عام 1927 في مدرسة خليل آغا بالقاهرة وأنهاها عام 1931، ثم انتقل منها لدراسة مرحلتي الإعدادية والثانوية بمدرسة فؤاد الأول بالقاهرة خلال الفترة من عام 1932 لعام 1937، ثم بعد ذلك التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وتخرج فيها عام 1942.

حصل إحسان خلال حياته على الكثير من الجوائز، وكُرِّم في كثير من المحافل، فقد منحه الرئيس المصري جمال عبد الناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وحاز جائزة الدولة التقديرية في الآداب، والجائزة الأولى عن رواية «دمي ودموعي وابتساماتي» عام 1973، وجائزة أحسن سيناريو لفيلم عن روايته «الرصاصة لا تزال في جيبي».
وتحول الكثير من كتاباته وإنتاجه الأدبي إلى أفلام بالسينما المصرية ونصوص مسرحية ومسلسلات تليفزيونية وإذاعية، كما تُرجمت عدة روايات له إلى الإنجليزية والفرنسية والصينية ولغات أخرى كالأوكرانية والألمانية.
ومن أهم رواياته «لا أنام، أنا حرة، أين عمري، الخيط الرفيع، في بيتنا رجل، النظارة السوداء، الطريق المسدود، لا تطفئ الشمس، شيء في صدري، ونسيت أني امرأة، أنف وثلاث عيون، حتى لا يطير الدخان، وثقوب في الثوب الأسود»، وغيرها.