أنور عبدالخالق (أبوظبي)
تعددت الأسباب..
وكثرت الأعذار..
ورغم مرور 63 عاماً على الحادث.. لم يخرج سبب واضح لغرق «دندرة».
و«دندرة» هذه، واحدة من أهم العبارات الملكية في مصر المحروسة. لم تدخل التاريخ لأنها شهدت أحداثاً واحتفالات تاريخية واستمتع برحلاتها الأمراء وكبار المسؤولين، ولكن باعتبارها رمزاً لأكبر كارثة نيلية عرفها القطر المصري حتى لقبت بـ «تايتانيك مصر».
حكايتها، بدأت قبل غرقها بخمسين عاماً وتحديداً عام 1909عندما اشترتها وزارة الأشغال المصرية من إحدى شركات الملاحة، وأخذت اسمها من رحلاتها إلى الوجه القبلي، عندما كان مفتشو مصلحة الآثار يستخدمونها في زيارة الآثار، ومنها معبد «دندرة»، وبعد مدة أطلق عليها اسم المعبد، طولها 38 متراً، وعرضها 6 أمتار، كانت مكونة من 4 كبائن وصالون وحجرة طعام بالطابق العلوي، وكابينتين فقط بالدور السفلي، وعدد أسرة النوم بها 6، وطاقمها كان يضم مهندساً وميكانيكياً ورئيس بحارة و12 بحاراً.
ومن أهم رحلاتها سفر سعد زغلول على متنها قاصداً قريته «مسجد وصيف»، المعروفة حالياً بـ«عزبة سعد باشا»، التي كان سعد باشا يقضي فيها إجازاته بصحبته «أم المصريين»، وتقع على ضفاف نهر النيل «فرع دمياط»، من الجهة الغربية، كما شهدت أحداثاً واحتفالات تاريخية مهمة، في فترة حكم الملك فؤاد الأول.
الفاجعة
في الثامن من شهر مايو 1959، وبمناسبة احتفالات شم النسيم، نظم نادي نقابة المهن الزراعية رحلة على متن «دندرة»، التي تحركت من مرسى روض الفرج وعليها 300 من أعضاء النقابة وزوجاتهم وأبنائهم وأصدقائهم، مولية وجهها شطر القناطر الخيرية ممنية من عليها بيوم ممتع. لكن وقبل أن تصل إلى غايتها بنحو ثلاثة كيلومترات بدا شبح الغرق يراودها، فقفز 50 من راكبيها إلى «اللنش» الذي يقطرها فلاذوا بالنجاة، وبعد لحظات معدودات، ألقى ربانها مراسيه محاولاً الوصول بها إلى الشاطئ، لكنها مالت قبل أن تصل بخطوات معدودة، وبدا الماء يُغير عليها، فألقى خمسون آخرون بأنفسهم في الماء يطلبون الحياة.. وفي لحظة.. هوت «دندرة» بمن عليها إلى القاع، فحاول بعض من على ظهرها أن يلوذوا بالنجاة فراحوا يضربون الماء، ويصارعون الأمواج، وقلوبهم هلعة على من خلفوهم وراءهم، وأيديهم ووجوههم تحترق من الزيت الملتهب الذي غمر صفحة النهر، أما الباقون، فاستقرت أجسادهم في جوف النيل.
47 راكباً
وتحولت الرحلة من نزهة على ظهر الباخرة «دندرة» الملكية إلى رحلة موت ومأساة إنسانية مروعة ذهب ضحيتها معظم الذين كانوا على متنها، لعدم إجادتهم السباحة، واستغرقت عملية البحث عن الضحايا 7 أيام كاملة، كما ظهرت جثث بعد أسبوع على مسافة طويلة من مكان الحادث، وانتهت عمليات الإنقاذ وجمع الجثث إلى إصابة أكثر من 30 شخصاً، ووفاة 79 بين أطفال ونساء ورجال، وتردد أن السبب الرئيسي في غرقها، عدم الالتزام بعدد الركاب المسموح به، حيث كان عليها حوالي 300 راكب، في حين أن العدد المسموح به هو 47 راكباً فقط.
«عَمْرة»
يقول ملف الباخرة، إنه أجريت لها «عَمْرة عمومية» قبل رحلتها إلى معبد أبي سنبل تم فيها نزع الصاج المتآكل في قاعها واستبداله بصاج جديد.. والعَمْرة العمومية - كما ورد في التحقيقات - تكفي في العادة لمدة 5 سنوات.
لحظة عابرة
من هول الفاجعة، كتبت مجلة المصور المصرية وقتها، أن «النيل، واهب الحياة لوادينا الأخضر، في لحظة عابرة من لحظات قسوته فغرفاه ليبتلع «دندرة» ويسلب الحياة من نحو مائة من ركابها ... أطفالنا الأطهار ... زوجاتنا الحبيبات مهندسونا الزراعيون الأحباب .. ضيوفهم، أقاربهم، أعوانهم، خدمهم ... غاصت بهم «دندرة» في لحظة خاطفة .. ثوان معدودة، سكن بعدها كل شيء .. حتى الحياة».
لا مضخات
قال الناجون من فريق عمل الباخرة، إنها كانت خالية من مضخات لطرد الماء، مما عجل بأجلها وآجال من عليها، فيما رجع المحققون وقتها أن السبب الرئيس في الكارثة هو حملها 300 راكب، بينما حمولتها الطبيعية لا تصل إلى ثلث هذا الرقم.
اختفاء القبطان؟
وصفت حادثة بحرية نهرية هزت الحادثة وجدان المصريين باعتبارها رمزاً لأكبر كارثة نيلية عرفتها مصر في ذلك الوقت حتى أن كثيرين حتى يومنا هذا، يصفون أي حادث كبير بأنه «دندرة»، وقيل إن قبطانها كان أول من غادر العبارة في زورق إنقاذ، واختفى بعد ذلك، ولم يظهر له أي أثر.
قرار جمهوري
بعد ساعات من الحادث، فتحت الحكومة المصرية حساباً لتلقي التبرعات لصالح أسر الضحايا، وبالفعل تم جمع 22 ألفاً و500 جنيه خلال أيام قليلة، وهو مبلغ كبير وقتها، خاصة أن الباخرة نفسها كان ثمنها وقت الغرق 15 ألف جنيه مصري، وفي رد فعل سريع من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، أصدر القرار الجمهوري رقم 996 سنة 1959، بمنح ورثة ضحايا الباخرة من موظفي الحكومة ومستخدميها وعمالها معاشات استثنائية بواقع ثلاثة أرباع مرتب المورث الذي وصل إليه، وعرض حالة ورثة الضحايا من غير موظفي الحكومة على لجنة المعاشات الاستثنائية لتقرير المعاش المناسب، لهم، وتعليم أولاد الضحايا بالمجان في جميع مراحل التعليم بمدارس وزارة التربية والتعليم، ومرحلة التعليم الجامعي المصري، ونشر القرار في 7 يونيو سنة 1959.
وقدمت توصيات وأنظمة لوزير النقل تطالب بضرورة حماية أرواح الركاب وأطقم المراكب والتأمين على العبارات والسفن، وأن تكون إجراءات السلامة كاملة.