سلطان الحجار (أبوظبي)

رواية الأرض، صدرت عام 1954، لكاتبها عبد الرحمن الشرقاوي، وتُعد من أشهر الروايات العربية التي تتطرق إلى الدفاع عن الحقوق وتقاوم الظلم، خاصةً الواقع على الفلاحين، لتنصف الفلاح وتمجد أصوله وجذوره الضاربة في أرضه وبيئته..
الرواية لم تركز فقط عن حالة الفلاح المصري «محمد أبو سويلم» الذي تُنتزع منه الأرض قهراً، لكن دائماً ما ينقلنا الشرقاوي في مؤلفاته للتخيل معه، فيصف القرية المصرية بتفاصيلها وعاداتها وتقاليدها كافة، وطبيعة الشخصيات وتحليلها بأبعادها الشكلية والنفسية الاجتماعية، لتجد نفسك بعدها متخيلاً تلك الشخصيات أمامك من لحم ودم. وضع الشرقاوي عبر روايته، تصوراً للقرية بعيداً عن النظرة الحالمة التي نراها، فصور الخير والشر معاً، وصراع الفلاح المصري من أجل البقاء، فتجد في تاريخ شخصية «محمد أبو سويلم» عندما رصدها الكاتب، محطات شكّلت تكوينه، فعندما زُج به في الحرب، لم يعرف وقتها من يحارب، لكنه لبى نداء الوطن، وعندما سُجن خلف القضبان سكنت المعاناة جسده بكل أمانة، فعاد محملاً بكل هذا الغضب ليفجره في وجه أي ظلم يقع عليه.
أما «خضرة» التي تخلت عن عاداتها وتقاليدها، والشيخ المتمثل في الدين لديهم والذي رفض دفنها نتيجة ما اقترفته من خطيئة، وعبد الهادي الذي تصدى للعمدة عندما مُنعت المياه عن أرضه، فكلها شخصيات تجسد قيمة الأرض التي صورها الشرقاوي لترمز للهوية عند الفلاح وهي الوطن بالنسبة له، ولا يعرف وطناً غيره.

صورة القرية في الرواية، نموذج للقرية المفتقدة في وقتنا الحالي، بتفاصيلها وأشخاصها وروحها، وتمسك الفلاحين بموطنهم الأصلي، الذي تبدل مكانه الآن نتيجة التطلع للهجرة والتخلي عن الأرض والجذور في سبيل الحصول على المال، ويكفي أن نتصور بعض المشاعر التي تجمع بين النقاء والسذاجة، ضمن أحداث الرواية، حين قام أحد الشخصيات بتوديع أخيه توديعاً حاراً عندما علم بسفره للقاهرة، وأخذ يحذره من خطر «الغربة» من وجهة نظره.
ليطفو تساؤل على السطح: لماذا ترك الفلاحون في عصرنا أرضهم، وأخذوا يلهثون وراء مستقبل مبهم خارج الوطن، في واقع كأنه يشير إلى خيانتهم لأرضهم الطيبة، وخيراتها التي تبخرت مثلما تبخرت أحلامهم خلف أسوار الغربة نتيجة عاصفة احتياج..؟.
تتمحور رواية الأرض حول ثلاث شخصيات رئيسة، وهم: «عبدالهادي ومحمد أبو سويلم ووصيفة»، وعدة شخصيات ثانوية هم «محمد أفندي، وخضرة، وعلواني، والشيخ يوسف، والشيخ الشناوي، والعمدة ودياب، وشيخ البلد، ومحمود بك، والمأمور، والناظر حسونة، إضافة إلى الشيخ شعبان الذي يظهر في الثلث الأخير من الرواية، بشكل مفاجئ ودون تمهيد، وكذا الشاويش عبدالله، وصول البندر، وعم كساب سائق العربية الحنطور».
وخلال صفحات الرواية نتعرض لأكثر من صورة من صور الفلاح، فهو المجاهد لأجل نصرة بلاده والفاعل في الحياة السياسية في ثورة 1919، وهو المناضل ضد الاحتلال الإنجليزي، وهو المدافع عن أرضه حتى آخر قطرة دم في جسده، إنه محمد أبو سويلم الذي حارب في صفوف الجيش، ملبياً نداء الوطن والواجب دون أن يسأل عن أسباب، وهذا عبدالهادي الذي سارع لإنقاذ «جاموسة» شعبان، رغم الحرب الضروس التي دارت بينهما، وهو من تصدى للحكومة التي حرمت الأرض من المياه، وهذا محمد أفندى الذي دفع ماله عن طيب خاطر لحل أزمة المياه دون أن يُعلم أحداً من أهل القرية.
وأبطال «الأرض» لا يزالون يسكنون ذاكرتنا جميعاً، حيث قدم فيها «الشرقاوي» القرية المصرية وللمرة الأولى بعيداً عن النظرة الرومانسية، ليضع أيدينا على ما كان يصيب الريف وناسه من تناقضات الإقطاع والاحتلال والفساد التي وصلت بهم إلى حدود الصراع من أجل البقاء.
وربما ما يميز هذا العمل أيضاً، واقعيته وتصوره للإنسان المصري، ونقل صورة حية تمثل ارتباطه بموطنه الذي يمثل جزءاً أصيلاً من تكوينه وتراثه، حيث إن الأرض بالنسبة للفلاح تعادل الحياة، وفقدانها هو الموت أو النفي أو الضياع.
وتُعد الرواية واحدة من أهم وأشهر الروايات المصرية التي جسدت لفترة الاحتلال، ومأساة الفلاحين في الريف المصري في تلك الحقبة، لتعيش كملحمة أدبية خالدة، في العقل والوجدان المصري.

من علامات السينما
رواية «الأرض» تم تحويلها إلى فيلم مصري  من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما عام 1970، من إخراج يوسف شاهين، ويكفي أنه خلال احتفالية مئوية السينما المصرية عام 1996، تم تصنيفه في المركز الثاني ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية في استفتاء النقاد، وكان من بطولة محمود المليجي في دور (محمد أبو سويلم)، عزت العلايلي (عبد الهادي)، نجوى إبراهيم (وصيفة)، يحيى شاهين (الشيخ حسونة)، توفيق الدقن (الشيخ شعبان مجذوب القرية)، حمدي أحمد (محمد أفندي)، صلاح السعدني (علوان)، عبد الوارث عسر (عمدة القرية)، وعلي الشريف (دياب)، وغيرهم، وسيناريو وحوار حسن فؤاد، ومونتاج رشيدة عبد السلام، وموسيقى تصويرية علي إسماعيل، وعزف أوركسترا القاهرة السيمفوني.
دارت أحداث الفيلم في إحدى القرى المصرية، قرية «رملة» بدلتا مصر عام 1933، حيث يفاجأ أهلها بقرار حكومي بتقليل نوبة الري إلى 5 أيام بدلاً من 10 أيام، حيث أصبحت مناصفة مع أراضي محمود بك الإقطاعي، ليجتمع أهل القرية للتشاور ويتفقوا على تقديم عريضة للحكومة من خلال محمد أفندي، ومحمود بك، والذي يستغل توقيعاتهم لينشأ طريقاً خاصاً لسرايته مقتطعاً من أرضهم الزراعية، فيثور الفلاحون - وعلى رأسهم محمد أبو سويلم - دفاعاً عن أرضهم، فترسل الحكومة قوات «الهجانة» لتسيطر على القرية بإعلان حظر التجول، ويتم انتزاع الأراضي منهم بالقوة، فيتصدى محمد أبو سويلم لقوات الأمن ويتم سحله على الأرض، بعد أن تم قيده وجره بواسطة أحد الخيول، وهو يحاول التشبث بالجذور وهوية الأرض التي تسكن جوارحه، وقد تم ترشيح الفيلم لنيل جائزة السعفة الذهبية لمهرجان «كان» السينمائي.

صراع البقاء
الفيلم يعتبر من أفضل ما أنتجته السينما المصرية عن الفلاح والريف المصري، ولا تزال هناك مشاهد عديدة عالقة في ذهن وذاكرة المشاهد العربي، فبالإضافة إلى أهمية هذا الفيلم الفنية والتقنية، فهو أيضاً فيلم جماهيري من الدرجة الأولى، فهو يحمل رؤية فنية وفكرية واضحة، ويتحدث عن الفلاح والأرض وضرورة الانتماء إليها، ويدعو إلى الثورة والدفاع عن مثل هذه المبادئ الإنسانية السامية، كما يحمل الفيلم - رغم بساطته التعبيرية - مضامين وإسقاطات على واقعنا الحاضر، ويتحدث عن صراعنا الحضاري، ضمن رؤية سياسية واجتماعية عن الواقع المصري والعربي.

ففي هذه القرية المصرية الصغيرة، يدور صراع بين الفلاحين، والإقطاعيين، حول مسألة الرّي التي هي عصب الحياة في كل قرية زراعية، ومن الطبيعي أن يتم انتصار الإقطاعيين بمساندة الدولة، عبر أجهزتها الأمنية والعسكرية، وبالتالي لا يستطيع تحالف أهالي القرية (الفلاحين) أن يصمد أمام تحالف الإقطاع والدولة، والذي نجح في إحداث انشقاق في صفوف الفلاحين، ليجد الفلاح الأصيل محمد أبو سويلم نفسه وحيداً في النهاية مع أقلية. 
وكان بوسع أهالي القرية أن ينتصروا، لولا هذا الانشقاق، والذي حدث انطلاقاً من مواقع طبقية، فالشيخ حسونة (يحيى شاهين) مثلاً، وهو المناضل الذي يعيش علي أمجاده الوطنية السابقة، يتخلى في اللحظة الحاسمة عن موقعه النضالي المفترض، حتى يضمن مصلحته الخاصة، وكذلك المثقف والتاجر وغيرهم ممن خافوا على مصالحهم الفردية.
وهكذا تفشل انتفاضة الفلاحين في النهاية، بالرغم من اللقطة الأخيرة ذات الدلالات القوية والتي تحمل الأمل كما تحمل اليأس في الوقت نفسه، وتتمثل في مشهد «محمد أبوسويلم» وهو مكبل بالحبال والخيل تجرُّه على الأرض وهو يحاول التشبث بجذورها.. إن الفيلم بنهايته هذه يفتح الباب على مصراعيه أمام سؤال كبير، يترك للمتفرج الإجابة عنه.
نحن إذن، في فيلم «الأرض»، أمام مضمون قوي يحمل رؤية تقدمية عن ذلك الصراع الطبقي الحادث بين الفلاح والإقطاع، وهذا المضمون، بالطبع، يقف وراءه مخرج فنان ومثقف فيلسوف، هو «يوسف شاهين» الذي توصل إلى جودة فنية وتعبيرية لم يكن قد توصل إليها في أيٍ من أفلامه السابقة، حيث برز كلاعب حاذق بالكاميرا، إلى جانب حرفيته في إدارة من معه من فنيين وفنانين، والتي فرضت الفيلم على أكثر من مهرجان عالمي، كما عُرض في العديد من الأسابيع السينمائية الخاصة للفيلم المصري والعربي في أغلب عواصم العالم شرقاً وغرباً.

الفيلم في عيون نقاد غربيين
عن رأي النقاد الغربيين في فيلم الأرض، قال الناقد الفرنسي جي أنبيل: « (الأرض) يتميز بصدقه وأمانته وواقعيته النقدية الراقية»، وقال مارسيل مارتان: «(الأرض) فيلم ملتزم تنبع شاعريته من رسالته الثورية، إنه يفتح المجال العالمي للسينما المصرية، وذلك الفتح تأخر كثيراً».
أما الناقد جان لوي بورمي في مجلة الابزرفاتور، فقال، «إن (الأرض) ليس حدثاً بالنسبة للسينما العربية وحدها ولكن بالنسبة للسينما العالمية أيضاً».. وأكد الناقد السينمائي ماريو براون أن فيلم (الأرض) المصري يتميز بالموهبة، وإنه يعكس قصة الأرض والذين يزرعونها.. الأرض والذين يستفيدون منها.. الفلاحون وأبناء المدينة الفقراء.. والأغنياء الأقوياء.. والضعفاء. فيما وصف الناقد جيرارد كونستابل، الفيلم بقوله: «إن (الأرض) علامة طريق في تاريخ السينما المصرية، وهو جدير بإعجاب العالم مثل أفلام هوليوود وروما وباريس».

الشرقاوي مفكر من طراز فريد
عبد الرحمن الشرقاوي، شاعر وأديب وصحفي ومؤلف مسرحي ومفكر إسلامي مصري من الطراز الفريد، وهو من مواليد 10 نوفمبر 1921م بقرية الدلاتون محافظة المنوفية شمال القاهرة، بدأ تعليمه في كُتاب القرية، ثم انتقل إلى المدارس الحكومية حتى تخرج في كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول عام 1943م.
بدأ حياته العملية بالمحاماة ولكنه هجرها لأنه أراد أن يصبح كاتباً، فعمل في الصحافة في مجلة «الطليعة»، ثم مجلة «الفجر»، وعمل بعد ثورة 23 يوليو في صحيفة «الشعب»، ثم صحيفة «الجمهورية»، ثم شغل منصب رئيس تحرير مجلة «روزاليوسف»، ثم عمل بعدها في جريدة «الأهرام»، كما تولى مناصب عدة أخرى، منها سكرتير منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي، وأمانة المجلس الأعلى للفنون والآداب.
من أهم رواياته، «قلوب خالية 1956»، «الشوارع الخلفية 1958»، و«الفلاح 1967»، ومن إصداراته في مجال التراجم الإسلامية «علي إمام المتقين (جزآن)، قراءات في الفكر الإسلامي، محمد رسول الحرية، والفاروق عمر»، وغيرها، كما شارك في كتابة سيناريو فيلم «الرسالة» بالاشتراك مع توفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار.
وحاز الشرقاوي جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1974، والتي منحها له الرئيس الراحل محمد أنور السادات، كما منحه معها وسام الآداب والفنون من الطبقة الأولى. توفي في 24 نوفمبر عام 1987.