واشنطن (الاتحاد) 

مع صعود الهواة عبر منصات الديجيتال ومحاولة المؤسسات الإعلامية العريقة منافستهم، فيما تتفشى حالة اللايقين عبر العالم، وسط تزايد القلق بشأن الحاضر والمستقبل .. يبحث الجمهور، (وصناع القرار أيضاً) عن صوت رصين وسط العواصف الهوجاء، ليعرف، ويفهم، ويستوعب، لتصبح عنده رؤية أفضل لما يحدث حوله، الآن وغداً. فالخيارات متعددة وتبعاتها مكلفة، ومصالح ضخمة للأفراد والمجتمعات والدول على المحك. ولم تستطع الفضائيات خلال سنوات صعودها الأخيرة أن تسد هذه الثغرة.. فمازال صوت الخبراء عبر برامجها واهنا ضعيفا، تائها وسط خضم هائل من الصراخ والعراك الذي صار سمة عامة، تشمل حتى البرامج الاجتماعية الخفيفة. والجمهور مغلوب على أمره، يستخدمونه ذريعة لتبرير الخفة الشديدة والإثارة وغياب الموضوعية، بدعوى أن «الجمهور يريد هذا». والصحافة الورقية في سعيها المحموم لمنافسة الميديا الجديدة، تائهة ومرتبكة.
أين إذن المنصات المتاحة أمام أهل الخبرة والمعرفة.؟! إنها المجلات والدوريات المتخصصة التي تفتح صفحاتها للخبراء والمتخصصين وأصحاب العلم في مختلف فروع المعرفة.  وللأسف، هي شبه غائبة إلا قليلاً في عالمنا العربي، على الرغم من الطفرة التي شهدها الإعلام عبر العقود الماضية . ومعظم التجارب التي ظهرت لم تستمر طويلاً، مع أنها طوق النجاة وجرس الإنذار ومصباح الأمان.  والآن ينذر بالخطر أن يكون الفاشاينستات والمؤثرون والمؤثرات هم البديل الأكثر شعبية وانتشاراً للخبراء والعلماء والباحثين. طبعا ينطوي الأمر على تحديات كبرى. فهذه الدوريات كي تنطلق وتزدهر لابد أن يتوفر لها مناخ إيجابي موات وبيئة عامة منفتحة على مختلف الاتجاهات وقاعدة علمية راسخة ومراكز بحثية عريقة تبذل أقصى جهد علمي بغرض التنوير من دون تورط في عمليات استقطاب فكري أو سياسي أو التورط في مواجهات تعرقل عملها. بمثل هذه المجلات تعبر المجتمعات للمستقبل بإعلاء صوت العقل والعلم والموضوعية... ولدينا بالفعل مخزون هائل من العقول الرصينة الذين يمكنهم أن يثروا الميديا العربية بالكثير من الآراء النزيهة. لكن أمامها عقبات كثيرة. في المقابل تعد مجلة «فورين آفيرز» الأميركية الصادرة عن مركز مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، نموذجاً ساطعاً في هذا الشأن. فالدور والنفوذ والتأثير الهائل الذي تمارسه هذه المطبوعة الراقية في السياسية الدولية استثنائي بكل المقاييس. وفي عددها الأخير الصادر الشهر الماضي احتفت المجلة بالذكرى المائة لتأسيسها. فأول أعدادها صدر في سبتمبر 1922.
ويشير دانييل كيرتز – فيلان رئيس تحرير المجلة في مقاله الافتتاحي إلى ملاحظة ذكية فارقة. يقول إن وزير الخارجية الأميركي السابق إليهو روت كتب في المقال الأول بالعدد الأول من المجلة عام 1922 «أن تطوير السياسة الخارجية لم يعد من الممكن أن يقتصر فقط على وزارات الخارجية.» يقصد بذلك أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة ولدول العالم التي كانت للتو تحاول أن تنفض عن نفسها غبار الحرب العالمية الأولى، صارت أخطر من أن تترك للسياسيين والدبلوماسيين المحترفين في دواوين الحكم ووزارات الخارجية.. تماماً،  مثلما أن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين، بحسب المقولة الشهيرة.

مقالات خطيرة غيرت العالم
لعبت مجلة «الشؤون الخارجية» دوراً كبيراً في تحديد مسارات السياسة الخارجية الأميركية خلال المئة عام الماضية. فقد نشرت آلاف المقالات والدراسات ووجهات النظر، التي تضمن أفكار ورؤى مهمة للغاية لنخبة من ألمع العقول والسياسيين والخبراء والوزراء.. وكلها تركت ظلالاً كثيفة وآثاراً واضحة على الكثير من التوجهات الدبلوماسية للولايات المتحدة، سلباً وإيجاباً. لكن من أبرزها على الإطلاق، كان مقال جورج كينان الذي كان عنوانه «X». وفيه وضع الدبلوماسي الشهير آواخر الأربعينيات بالتفصيل استراتيجية واشنطن للاحتواء خلال سنوات الحرب الباردة. وهناك أيضاً مقالة المفكر الأميركي صمويل هنجنتون الشهيرة عن صراع الحضارات التي نشرتها المجلة عام 1993، وكانت بداية لموجة هائلة من التطورات السياسية والعسكرية، مازال العالم يحاول التعامل مع تداعياتها حتى الآن.
هذا التأثير الهائل لم يكن ليتحقق لولا الإيمان المطلق للقائمين على المجلة (مجلس العلاقات الخارجية) بضرورة نشر المعرفة لتعزيز ازدهار الديمقراطيات السياسية عبر العالم. يقول رئيس التحرير دانييل كيرتز فيلان إن كل من كتب في المجلة عبر القرن المنصرم، كانوا منخرطين بالأساس في نقاش إيجابي بين السياسيين والمسؤولين والخبراء والقراء المهتمين في الولايات المتحدة وحول العالم. كانت المجلة تصدر مطبوعة كل شهرين، لكن الآن صارت المقالات تنشر عبر موقعها الإلكتروني كل يوم، وصار الكتاب يطرحون أفكارهم عبر خدمة البودكاسات الخاصة بالمجلة أو من خلال الحوارات التي يتم بثها بصفة دورية، ناهيك عن البث الحي للأحداث والفعاليات المختلفة. لقد تطورت إذن «فورين افيرز» مع العصر وتغير فيها الكثير.. لكن بقى فيها دوما دقة التحليل ووضوح الرؤية وقوة الحجة ومصداقية الرأي التي هي حصاد الخبرة والتجربة الفريدة لأصحابها مع تركيز أساسي ومستمر على الخيارات المتاحة وما يتعين القيام به.. فهذه هي القيم الأصيلة للمجلة التي انطلقت منها وبها قبل مئة عام..  وفي العدد الأخير، تتجسد هذه القيم بقوة. يقول رئيس التحرير إن المقالات «لا تمثل أي إجماع على المعتقدات»، بل تعكس درجة عالية من «التسامح مع الاختلافات الواسعة في الرأي... والتعبير عنها بشكل مقنع»، انطلاقاً من القاعدة الذهبية التي وضعها رئيس التحرير المؤسس أرشيبالد كاري كوليدج الذي شدد من قبل على أن المجلة «لا تتحمل المسؤولية عن الآراء المعبر عنها في أي مقال. ما تتحمل المسؤولية عنه هو فقط منحهم الفرصة للتعبير عن الرأي.» ويضيف  كيرتز «إن الادعاء المركزي لأول مقال للمجلة على الإطلاق – بأن السياسة الخارجية الجيدة تتطلب نقاشاً عميقاً ومفتوحاً وواسعاً – قد لا يبدو لافتاً للنظر كما كان الحال في سبتمبر 1922. ومع ذلك، فإن كل ما نقوم به يهدف إلى الوفاء بهذا الالتزام، وهو التزام حيوي الآن كما كان قبل 100 عام».
ويختتم بقوله «عندما نشرت مجلة فورين أفيرز عددها الأول في عام 1922، كان العالم لا يزال يعاني من توابع الحرب العالمية الأولى. وفي عام 2022، يخوض العالم مرة أخرى غمار الأزمات، بما في ذلك الأزمة في أوكرانيا، والوباء العالمي، والديمقراطية الأمريكية التي تتعرض للهجوم.»

كتاب بارزون
كتب في المجلة أكاديميون بارزون ومسؤولون حكوميون وقادة سياسيون مثل هيلاري كلينتون، ودونالد رامسفيلد، وأشتون كارتر، وكولن ل. باول، وفرانسيس فوكوياما، وديفيد بترايوس وزبيغنيو بريجنسكي، وجون ج. ميرشايمر، وستانلي ماكريستال، وكريستوفر ر. هيل وجوزيف ناي وروبرت أو كيوهان.