يقول الخبر: إن هيئة الإذاعة البريطانية تُعلن عن وقف البث الإذاعي بلغات عدة من ضمنها «العربية»، وهو خبر مؤلم للذين يعشقون هذه الإذاعة وارتبطت بوعيهم منذ الصغر، يأتي هذا التوقف بعد رحيل الملكة إليزابيث، وكأنها تغادر معها في ذهاب للزمن ذاته بكل جمالياته، ومنها الـ«بي بي سي العربية»، التي هي ليست مجرد إذاعة وإنما مؤسسة ثقافية إعلامية بما قدمته من محتوى طوال 84 من عمر البث، حيث كان لعبارة «هنا لندن» التي انطلقت مع دقات «بيغ بن» عام 1938 حضورها الطاغي، وأثرها الأنيق.
تميزت البي بي سي بما قدمته من محتوى إعلامي عميق سلّط الضوء على عديد من القضايا التي تهم المجتمعات بحسب ثقافاتها المتنوعة، وتشكيلات الوعي لدى شعوب متعددة المشارب والاهتمامات، وكان لأصوات مذيعيها حضور خاص ومميز، تشعر مع كل صوت بتنوع ثقافي عميق يترك أثره في شخصيتك وتكوينك الفكري، الإذاعات قديماً صنعت شخصيات وشكّلت عقولاً لا تجدها اليوم، وقد تحولت بعضها إلى أثير راقص خالٍ من المحتوى والرسائل الإعلامية المنشودة.
أذكر منذ عدة أعوام، نظمت الإذاعة مسابقة للقصة القصيرة على المستوى العربي، وحينها فاز شاب مصري يعيش في إمارة الفجيرة بالجائزة الأولى، وجاء فريق لتكريمه وسط أجواء من الاهتمام الواضح، يومها كنتُ في بدايات عملي الإعلامي في «الاتحاد» ودُعيتُ للحضور، شعرتُ بفرح غامر وأنا ألتقي وجهاً لوجه مع أصوات تعلقتُ بها عبر الأثير، وإذا ببعضهم بيننا يحتفلون بالفائز، تلك المسابقة الثقافية تؤكد أهمية الإذاعة التي شكّل حضورها على مدى أعوام طويلة حالة من الحب بينها وجمهورها العاشق لمحتواها العميق.
أعتقد أن الأسباب التي ذكرتها هيئة الإذاعة البريطانية في تفسيرها للقرار ليست وحدها وراء ذلك، ربما هناك عوامل أخرى قد يكون منها أن الوقت والزمن لم يعُد زمن الصوت المسموع وإنما الصورة المرئية، إعلامية كانت أم غير ذلك، فقد تغيرت الاتجاهات والتوجهات، وهجر محبو الإذاعات والصحف الورقية عوالمهم التي تعلقوا بها، ذلك أن الزمن يركض بنا نحو التكنولوجيا التي عجز بعض المحاربين القدامى عن مواكبتها.
كما أن الصوت الإعلامي الذي كان يأسرنا من خلال جهاز راديو لم يعد مؤثراً، فالصورة بما تحمل من مساحيق وألوان وآخر موضات الأزياء أصبحت هي الطاغية، أضف إلى ذلك ظهور وسائل إعلامية تواصلية جديدة قطعت المسافات، وكسرت الحواجز، وهدمت المضامين الإعلامية الراقية، كل ذلك قد يكون من الأسباب التي دفعت بالهيئة إلى توقف البث في إذاعاتها التي ارتبطت بأذهان الناس واهتماماتهم سنين طويلة.