محمد المنى (أبوظبي)
رغم عدم التأكد من مقولة «القهوة السلعة الأكثر رواجاً وتداولاً ومتاجرةً بعد النفط على كوكب الأرض».، فإن هذا المشروب - وبدون أدنى شك- سلعة ذات أهمية عالمية كبيرة، ووفقاً لمركز التجارة الدولية يعتبر أكثر انتشاراً من الشاي، بل تبلغ مبيعاته سبعة أضعاف مبيعات الشاي. ومقارنةً بعمر الحضارة البشرية، فإن اكتشاف «مشروب» القهوة كان متأخراً بالنظر إلى باقي الاكتشافات الأخرى، التي يعود بعضها إلى خمسة آلاف سنة، بينما لم تظهر القهوة إلا في مطلع الألفية الثانية للميلاد.
كيف تطور هذا المشروب في وقت قصير نسبياً ليصير أحد أكثر المشروبات استهلاكاً في عالم اليوم؟ سؤال يحاول بريان ويليامز، وهو صحفي ومدون صاحب أسلوب مميز، الإجابةَ عنه في كتابه الاستقصائي «فلسفة القهوة».
يبدأ المؤلف بحثه حول أصول القهوة بالقصة الفلكلورية المتداولة بين الناس من جيل إلى آخر، وهي قصة «خالد وماعزه الراقصة»، والتي وُجِدت مطبوعةً لأول مرة في عام 1671، وخلاصتها أن راعي غنم اسمه خالد لاحظ أن ماعزه صارت نشيطة للغاية بعد أكلها ثماراً توتية حمراء من شجرة ما، لدرجة أنها لم تعد قادرة على النوم مساءً. فدفعه الفضول لتناول الثمار التوتية الحمراء، كما تروي الأسطورة، فشارك ماعزه رقصاتِها الفرِحة!
لكن كيف اكتمل الطريق من الراعي وماعزه آكلة الثمار التوتية إلى مشروب القهوة الذي نعرفه اليوم ونحبه؟ يفضي هذا السؤال إلى إجابات مختلفة، لكنها تتفق في أغلبها على أن الإسلام أدى دوراً رئيسياً في تمهيد الطريق الذي عبرته القهوة نحو ما هي عليه اليوم من مكانة وشيوع. ووفقاً لأسطورة خالد وماعزه، فإن الراعي أخذ الثمار التوتية إلى رجل دين ليطمئن إلى خلوها من عناصر كحولية، فرماها في النار لتنبعث منها رائحة عطرية فواحة ومبهجة، فأخرج الحبوب «المحمصة» من النار وأعد منها مشروباً وجده مستساغاً، ليكون ذلك إيذاناً بميلاد مشروب القهوة.
ويوجد إجماع على أن ذلك كان في مرتفعات إثيوبيا، لكن توجد شواهد تفيد بأن القهوة اكتُشفت على الجانب الآخر للبحر الأحمر في اليمن، وعلى الرغم من دور اليمن لاحقاً في انتشار القهوة نحو نطاقات واسعة من العالم، يتفق أغلب الباحثين على أن إثيوبيا كانت الموطن الأول لنشأة القهوة. ومرة أخرى في معرض سؤاله حول الكيفية التي انتشرت بها القهوة حول العالم؟ يقول ويليامز: الإجابة هي الإسلام. ذلك أن تحول القهوة من مشروب مغمور في الهضبة الإثيوبية إلى مشروب يُستهلك في جميع أنحاء العالم، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإسلام.
وإن لم يتضح بعد سبب انتشار القهوة في اليمن، كما يشير الكتاب، فمن الواضح أنها بدأت انتشارَها المستمر عبر العالم الإسلامي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وذلك بالاستناد إلى ما يذكره محمد الأنصاري الجزيري الحنبلي في كتابه «عمدة الصفوة في حل القهوة»، من أن الناس في المسجد الحرام بمكة المكرمة، في عام 1511 للميلاد، كانوا يشربون القهوة مساءَ كلِّ يوميْ اثنين وجمعة. وفي ذلك الوقت أيضاً أخذت القهوة لنفسها مكانةً كبيرة في مصر وشمال أفريقيا، حيث صارت القاهرة مركزاً لتجارة القهوة وازدهرت المقاهي حول الجامع الأزهر. ومن هناك انتشرت المقاهي لتصل دمشق وحلب، ثم إسطنبول التي شهدت افتتاح أول مقهى فيها عام 1555 على أيدي تجارين سوريين.
قبول واسع
لقيت القهوة قبولاً واسعاً في الأوساط الاجتماعية والدينية ساعد على انتشار المقاهي، لكن لم يكن هناك انتشار موازي في زراعة القهوة، فكل أشجارها خلال تلك القرون كانت تزرع في اليمن، ومن ثم يتم تصديرها عبر المسارات البرية التجارية المعروفة أو عبر البحر من خلال ميناء موخا الغربي. وبحلول منتصف القرن السادس عشر، صارت المقاهي مكوناً أساسياً في حياة المجتمعات المسلمة، ثم امتدت نحو الغرب لتبدأ الانتشار في أوروبا خلال القرن التالي. ويذكر المؤلف أن مالطا كانت موطن أول مقهى في أوروبا، وذلك بعد حصارها العظيم عام 1565، حيث صد فرسان القديس يوحنا جيش الإمبراطورية العثمانية، والتي وقع بعض جنودها أسرى فأصبحوا عبيداً، وكانوا يقومون بإعداد القهوة وشربها. وساعدت خطوط التجارة البحرية، رغم الأعمال العدائية بين الجانبين، على انتشار القهوة في مالطا ومنها لبقية أوروبا. ثم عرفت مدينة البندقية افتتاح أول مقهى فيها عام 1645، ولحقتها لندن في عام 1652، ثم فيينا في عام 1685. ومع نهاية القرن السابع عشر أصبحت المقاهي جزءاً أساسياً من الثقافة الأوروبية. ثم افتُتحت المقاهي في أميركا الشمالية بعد فترة قصيرة مقلِّدةً النموذج الأوروبي. وكما يلاحظ المؤلف فإنه على الرغم من الفروقات الشاسعة بين المجتمعات الأوروبية والمجتمعات المسلمة، فإن ثقافة المقاهي فيهما كانت متشابهة لدرجة كبيرة.، وبدأت هذه الثقافة أسلوبها في القاهرة، ووصلت إلى ذروتها في إسطنبول.
التوت الأحمر
القهوة، كما يوضح الكتاب، فاكهة تنمو على الأشجار أو الشجيرات، وتعد عملية تحويلها من الثمار الناضجة «التوت الأحمر في الأسطورة» إلى الحبوب المحمصة الجاهزة، عملية معقدة للغاية. فهذه الحبوب تأتي من عائلة نباتية تدعى البن، تنبت بشكل أساسي في المناطق الاستوائية على ارتفاعات مختلفة. وتستغرق شجرة القهوة العادية لتنبت من البذرة حتى الثمرة من ثلاث إلى خمس سنوات، وهي تثمر مرتين في العام. وبعد عملية التقشير والغسل والتجفيف والمعالجة والطحن، تبدأ مرحلة التحميص التي تنتج الحبوب البنية المألوفة لدينا والمعروفة بالقهوة.
تجارة عالمية
بعد خروج القهوة وانتشارها خارج اليمن، كان لا بد من زراعة شجرتها خارجه أيضاً، وهي العملية التي بدأت في عام 1699 عندما أرسلت شركة الهند الشرقية الهولندية بعض بذور القهوة من مزارعها الهندية إلى ممتلكاتها في جزيرة جاوة الإندونيسية. فصارت تلك المزارع خلال 15 عاماً تشحن القهوةَ إلى السوق الأوروبية، وبعدها صارت الشركة هي المهيمنة على تجارة القهوة في أوروبا، مما ترك أثراً مدمراً على تجارة القهوة وزراعتها في اليمن. لكن مزارع القهوة الفرنسية في الكاريبي انتزعت الهيمنة من شركة الهند الشرقية الهولندية في السنوات الأخيرة من القرن نفسه. وقد تكرر هذا النمط نفسه في مطلع القرن التاسع عشر عندما نهضت البرازيل وهيمنت على تجارة القهوة العالمية، وما زالت حتى يومنا هذا تحافظ على هذه المكانة.