أبوظبي (الاتحاد)

قبل نحو خمسين عاماًً في صيف لاهب الحرارة مثل صيفنا هذا، هزت صورتان العالم كله.. صورة رئيس أكبر دولة في العالم، يقف في بيته الأبيض منكس الرأس، مهزوماًً، خائر القوى، بعد تفجر فضيحة سياسية مروعة.. وصورة فتاة صغيرة بائسة لم يتعد عمرها 10 أعوام، تعدو في أرض قفر بدولة صغيرة فقيرة، بعيدة، وهي في فزع ورعب. ملامح وجهها البريء ضاعت تحت دموع حارقة وصرخة مروعة، وورائها حرائق يتصاعد دخانها في السماء.. صنعت الصورتان تاريخاً جديداً ليس في عالم الصحافة فقط بل أيضاً في عالم السياسة، وحطمتا حدوداً وقيوداً لم يكن أحد يتصور تجاوزها لا في الصحافة ولا السياسة.
في 8 يونيو 1972، خطفت صورة الفتاة الفيتنامية كيم فوك فان ثي القلوب، وهي تجري عارية حين كان عمرها 9 أعوام فقط، هرباً من غارات طائرات فيتنامية جنوبية كانت تقصف بالنابالم قريتها الصغيرة في غمرة الحرب المروعة بين شطري فيتنام.
وفي 17 يونيو 1972 أيضاًً بدأ تفجر شظايا فضيحة ووتر جيت التي اضطرت ريتشارد نيكسون لإعلان استقالته، وهو في الـ 61 من العمر، من رئاسة الولايات المتحدة.. ولولا الصحافة لم يكن العالم ليعرف شيئاًً عن مأساة الطفلة الفيتنامية وشعبها ولا تورط نيكسون في التجسس على خصومه السياسيين.
والفضل للشغف والموهبة والسعي وراء الحقيقة .. ولصحفيين بارزين في واشنطن بوست، بوب وودوارد وكارل برنشتاين، اللذين طاردا نيكسون على صفحات الجريدة بتقارير وأخبار وتحقيقات مدوية، ومصور وكالة «اسوشيتدبرس»، نيك بوك الذي التقط صورة كيم في لحظة فارقة من الزمن.. تجسدت فيها كل مآسي الحروب والنزاعات. لذا استحقوا جميعاً.. جائزة بوليتزر الرفيعة، وصارت صور نيكسون و«فتاة النابالم» في ذروة المأساة الشخصية لكل منهما، أيقونات تاريخية لا تنساها البشرية حتى الآن.

القصص الجيدة تصنعها «أفضل نسخة من الحقيقة» 
قبل أيام قليلة، احتفت «الميديا» الأميركية بمرور 5 عقود على أحد أهم «الخبطات» الصحفية في تاريخ الصحافة بالعالم،  التي أطاحت لاحقاً بالرئيس ريتشارد نيكسون عام 1974.. وبالطبع كان نجما المناسبة، الصحفيين بوب وودوارد وكارل برنشتاين اللذين نجحا بحرفية عالية في كشف تفاصيل الوقائع غير المسبوقة في الساحة السياسية الأميركية. لقد صنعت سلسلة التحقيقات الصحفية المميزة التي نشرها الصحفيان البارزان في «واشنطن بوست» مجداً مهنياً استثنائياً. صار الاثنان من أيقونات الصحافة، وكرسا نفسهما نجمين من المشاهير، تستضيفهم محطات التلفزيون ليحكي كل منهما عن تجاربهما، وينتظر الصحفيون بلهفة، نصائحهما الثمينة ، ويتلهفون على شراء أحدث كتبهم.
بل إن هوليوود كرست نجوميتهما بطريقتها المثلى. بفيلم استثنائي، «كل رجال الرئيس». ألهم الفيلم ونجاح وودوارد وبرنشتاين العديد من الشبان للانخراط في عالم الصحافة، كما قال بريان ستيلر مذيع «سي إن إن» خلال استضافته الصحفيين البارزين في برنامجه «مصادر موثوق بها» قبل أيام. وهو في الواقع أعظم فيلم صنعته هوليوود عن الصحافة والصحفيين.
أشاد وودوارد خلال اللقاء مع «سي إن إن» بالفيلم، وكيف أظهر تفاصيل مهمة عن الجهد الكبير الذي بذله مع زميله برنشتاين من أجل الحصول على المعلومات الدقيقة والسليمة من مصادرها الصحيحة، خاصة (صاحب الحنجرة العميقة)، وبالسعي المتواصل وطرق كل الأبواب للحصول على إجابات.

كان الصحفيان قد نشرا سلسلة مميزة من التقارير في «واشنطن بوست» بشأن القضية على مدى عامين حتى أعلن نيكسون  الاستقالة، كما نشرا كتابهما المهم «كل رجال الرئيس».
وقال الصحفيان، خلال اللقاء، إنهما كانا يظنان أن نيكسون هو آخر رئيس يتحدى صراحة الدستور والقانون... حتى «جاء ترامب». وقد وجها له انتقادات لاذعة. وقال وودوارد «إذا كنت تريد أن تعرف ما الذي أسقط نيكسون ورئاسة نيكسون.. إنها الكراهية والسم اللذين كانا في أدارته».. وتابع «والآن نحن نرى ذلك في الوسط السياسي الأميركي». المدهش أن برنشتاين قال، إن البيت الأبيض في عهد ترامب كان أسوأ مما كان عليه الحال في ظل حكم نيكسون، مشيراً إلى أنه لم يكن يتخيل أبدا إنه بعد 50 عاماً من نجاحهما في فضح ألاعيب النخبة السياسية، سيكون مضطراً للكتابة مرة أخرى  عن رئيس آخر ينتهك قواعد الحكم.
وأضاف برنشتاين أن الاثنين بينهم أوجه شبه كثيرة، مؤكداً أن «جرائم الرئيسين السابقين  بدأت مع تقويض العنصر الأساسي للديمقراطية.. الحرية والانتخابات النزيهة».
يتذكر وودوارد أنه عندما نجحت حملتهما الصحفية في إجبار نيكسون على الاستقالة في 1974، تلقيا رسالة مهمة من ناشرة «الواشنطن بوست» في ذلك الوقت كاثرين جراهام. جاء في الرسالة، «لا تبدأن في التفكير كثيراً في أنفسكم. لقد قمتم بإنجاز بعض القصص الجيدة.. لكني أود أن أقدم لكما بعض النصائح». حسبما اقتبس وودوارد من رئيسته السابقة ، التي تابعت قائلة: «احذرا من التباهي الشيطاني».. وبعد خمسة عقود، يقول وودوارد، يتعين على الصحفيين الآن أن يستمعوا جيداً لهذه النصيحة. 
من جانبه، يقول برنشتاين، إنه ينبغي على الصحفيين اليوم أن يلتزموا بمقولة مهمة للغاية اعتمد عليها هو وودوارد خلال فترة إعداد سلسلة التحقيقات الشهيرة عن الفضيحة.. ألا وهي.. العمل من أجل الوصول إلى «أفضل نسخة ممكنة من الحقيقة». ويعني ذلك المثابرة وأن تكون مستمعاً جيداً، بتعبيره.

فتاة النابالم.. صورة أيقونية تجسد مأساة الحروب
قبل أيام التقت «فتاة النابالم» الشهيرة كيم فوك ومصور «الأسوشيتدبرس» نيك أوت بعد 50 عاماً من لقائهما المثير أثناء الحرب الفيتنامية.. هذه المرة كان اللقاء في نيويورك بمقر وكالة «أسوشيتدبرس» بمناسبة مرور 5 عقود على الصورة الأيقونية.. فوك عمرها الآن 51 عاماً. لم تعد بعد فتاة النابالم، بل صارت رمزاً للسلام والحياة .أما المصور المتقاعد (71 عاماً) فما زال يعشق التصوير.
كان لقاؤهما في نيويورك حميمياً للغاية، غمرت الدموع وجهيهما وهما يطالعان معا نيجاتيف اللقطات القديمة، أمام عدسات المصورين.
تقول «اسوشيتدبرس»، إن مصورها أدى عمله وأنقذ الطفلة الصغيرة، حيث هرع بها للمستشفى لعلاجها من الحروق.
وفي مقال مؤثر نشرته قبل أيام في «نيويورك تايمز»، استعادت فوك الماضي قائلة: «غير نيك أوت حياتي للأبد بهذه الصورة الرائعة، لكنه أنقذ حياتي أيضاً. بعد أن التقط الصورة، أنزل كاميرته ولفني في بطانية وأخرجني للحصول على رعاية طبية. أنا ممتنة له».
ومع ذلك، تظل في نفسها قدر كبير من المرارة بسبب الصورة. تضيف: «نشأت وأنا أكره  الصورة، قلت لنفسي.. أنا فتاة صغيرة. أنا عارية. لماذا التقط تلك الصورة؟ لماذا لم يحمِني والداي؟ لماذا قام بطباعة تلك الصورة؟ لماذا كنت الطفلة الوحيدة العارية، بينما كان إخوتي وأبناء عمومتي في الصورة يرتدون ملابسهم؟، شعرت بالغضب والخجل.»
تشبه صورة فوك هذه صور أطفال كثيرين كانوا ضحايا حروب أو نزاعات، إنها أشبه ما تكون بصورة إيلان الطفل السوري الذي غرق في البحر، قبل الوصول لأوروبا. الفارق أن فتاة النابالم نجت وكبرت وخرجت من الصورة لتحكي قصتها.. لكن إيلان سيئ الحظ، بقى في الصورة، جثة مطروحة على الشاطئ، ولم يسعفه الوقت أو الحظ أو البحر، ليحكي مأساته. فذهب هو وبقيت الصورة.

  • فتاة النابالم ومصور الأسوشيتدبرس يحتفيان مع اللقطة التاريخية

لكن، مازالت صورة فوك مازالت تزعجها. تقول بمقالها الأخير «أصبحت الصورة أكثر شهرة، ما زاد من صعوبة حياتي الخاصة والعاطفية. ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، جلست خلال مقابلات لا نهاية لها مع الصحافة ولقاءات مع أفراد عائلات ملكية ورؤساء الوزراء وغيرهم من القادة الذين توقعوا جميعاً أن يجدوا في لقاءاتهم معنى لتلك الصورة ولتجربتي المريرة. أصبح الطفل الذي يركض في الشارع رمزاً لأهوال الحرب. كان الشخص الحقيقي بداخلي ينتظر في الظل، كان يخشى من أن أبدو للناس ذلك الشخص المدمَر.»
وفي محاولة، لتجاوز التجربة، أخذت المصور نيك بوت وفوك - خلال لقائهما في مقر اسوشيتدبرس - يطالعان صوراً للحرب في أوكرانيا، وهما يتمنيا لو أن تنتهي الحرب قبل أن يخرج منها صورة مأساوية، كالصورة التي تم التقاطها قبل خمسين عاماً.
ففي كل حرب لابد من صورة أيقونية، تجسد مأساتها وتحكي فظاعتها.. وإلى الآن مازال المصورون في أوكرانيا يطاردون تلك الصورة.