يفرط الإعلام العربي كثيراً في الحديث عن الثورة «الرقمية» والتطور «الرقمي» والقطاع «الرقمي»، لكن قليلاً ما يهتم هو نفسه بالأرقام الحقيقية. فالأعداد عنده مظلومة، في الظل، محرومة من النور. على النقيض تماماً، تعتمد الميديا الغربية بشكل أساسي في معظم تغطياتها وخدماتها، سواء كانت خبرية جادة أو ترفيهية، على الأرقام والإحصائيات الدقيقة المستمدة من بيانات موثقة. وكثيراً ما تكون مانشيتات الصحف أو الأخبار التي تتصدر النشرات التلفزيونية أرقاماً قياسية جديدة.. عدد ضحايا، مرضى، معدل تضخم، زيادة في الأسعار أو الرواتب، إجمالي أهداف لاعب أو فريق، معدل ساعات العمل.. كل ما سبق وغيره - بالزيادة أو النقصان- يصنع قصصاً صحفية ويفجر تغطيات إعلامية بلا نهاية. يساعد ذلك الجمهور على أن يبلور تصورات محددة وموضوعية عن كل قضية مطروحة أمامه.. فالأرقام، كما يقولون، لا تكذب، فضلاً عن أنها يسيرة، سهلة، يمكن استيعابها بسرعة باعتبارها ترجمة واضحة لوضع جديد أو ظاهرة مختلفة. وبها يمكن قياس قيمة كل شيء.
لذلك، تتوسع الميديا الغربية في استخدام الأرقام الخام، والنسب المئوية، ويطارد الصحفيون ببراعة، في نصوص البيانات الصادرة عن الحكومات أو الشركات والهيئات و.... كل الأرقام لتحليلها ومقارنتها، للتوصل إلى نتائج بعضها قد يكون مفاجأة مذهلة تستحق فعلاً تصدر الصفحة الأولى أو نشرة الأخبار الرئيسة.
ومع أن الكمبيوتر وبرامجه المدهشة، جعل التعامل مع الأرقام أكثر سهولة، إلا أنه يتعين تأهيل الإعلاميين ليس فقط ليكونوا أكثر براعة في التعامل مع الأرقام، بل أيضاً أكثر حساسية تجاهها.. ينطبق ذلك على الإعلاميين الذين يقومون بتغطية القضايا الاقتصادية المتخصصة أو حتى الصحفيين الرياضيين الذين يتابعون مباريات كرة القدم.
ومثلما يفضل أن يعرف الصحفي لغة ثانية غير لغته الأم، واجب عليه إتقان لغة الأرقام، ولا يصح أبداً أن نتحدث عن الضعف «التاريخي» في تعلم الرياضيات. فالأمر يتجاوز مبادئ الجمع والطرح والضرب والقسمة. نحن هنا نتحدث عن مهارات أكثر تعقيداً، مهارات تمكن الصحفي من التعامل مع المصادر والمواد المتاحة أمامه، بقدر أكبر من الثقة والحرفية، لصنع محتوى أفضل، أدق، أسرع، أوضح.
إننا نتحدث عن استطلاعات الرأي والاستبيان، والرسوم البيانية، والرسوم المصورة، فهذه الأدوات المهمة التي لا يتم استخدامها كثيراً في الإعلام العربي، كان من الممكن أن تسهم في كسب المزيد من ثقة الجمهور.. بدلاً من الاعتماد المبالغ فيه على الكلام الذي يبدو بلا نهاية، والذي قد يصعب إثباته فحواه أحياناً. 
هنا، يطرح السؤال نفسه، هل الإعلام المتطور هو نتاج لمجتمع متطور؟!.. أم أن الأمر العكس تماماً؟. بمعنى هل التقصير يتحمل مسؤوليته الإعلام، أم أن المجتمع والسياق العام بالعالم العربي لا يساعدان الإعلام على القيام بهذا الدور؟ مسألة محيرة أليس كذلك.