خولة علي (دبي) 

«القلافة» من المهن الحرفية التي أبدع فيها الأهالي في الماضي، وكانت تُعينهم على رحلات البحر والسفر لأشهر طويلة تمخر إلى عرضه وتتقاذفها الأمواج العاتية يمنة ويسرة. وبعد أهوال البحر وشدته، يظهر بصيص الأمل ليجدد التفاؤل في نفوس البحارة، الذين يشكلون صفوفهم ويتوزعون على ظهر السفينة بقوة ونشاط، مشمرين عن سواعدهم لشق البحر والمضي قدماً نحو موانئ أخرى.
رحلات البحر فيها أخطار كثيرة، لذا يحرص «القلاف» في صناعة السفن على الدقة وجودة المواد المستخدمة ومتانتها، إذ شكَّلت وسيلتهم لخوض غمار البحر بحثاً عن الرزق، أو للتبادل التجاري مع الهند وسواحل أفريقيا. وكانت بمثابة الفلك، تجري في البحر، بهدى من يقودها نحو غايتها.

الطريقة التقليدية
يصطحبنا الوالد عبدالله محمد المطوع الظهوري إلى زمن الأولين، ليكشف تفاصيل «القلافة»، التي اشتهر بها سكان الساحل قديماً. وهي تمثِّل صناعة السفن أو المحامل التقليدية القديمة، وقد احترفها وورثها عن أجداده ممن كان لهم باع طويل في أسرارها. 
ويستعيد الظهوري ذكرياته على شاطئ البحر، المحطة المكتظة بصناعة السفن، حيث كان يتابع عن كثب عملاً دقيقاً مارسه أجداده وأهالي الساحل الشرقي مسقط رأسه، لينشأ في كنف هذه الحرفة التي لم يتركها، وإنما طورها من خلال صناعة قوارب مصغرة لتبقى متداولة في المشهد المجتمعي خشية أن تتلاشى مع العصرية.  
التقينا بالوالد «القلاف»، وهو منكب على عمله في صناعة القوارب داخل باحة منزله في دبا الحصن، يحفر الخشب ويمعن في نشره بالطريقة التقليدية. وقال: منذ أربعين عاماً وأنا أعمل في حرفة «القلافة» التي زاولها أجدادي، واعتاشوا منها لارتباطهم الوثيق بالبحر، نظراً لكونه المصدر الأساسي للرزق قديماً، ولا يزال. 

تركيب القطع
وذكر الظهوري أن صناعة السفينة تحتاج إلى عدة أشهر، ويعمل عليها من 5 إلى 10 «قلاليف»، ولاسيما للمحامل الكبيرة. وبعد تجهيز الأخشاب التي كانت تُجلب من الهند، يصار إلى تركيب قطع السفينة بوضع القاعدة الأمامية أولاً، ومن ثم القاعدة الخلفية. وعندها يأتي دور الألواح الجانبية، ثم أضلاع السفينة الداخلية، وبعدها عملية تنفيذ السطح واستكمال الجوانب حتى تحين مرحلة التشطيب النهائية التي تتطلب وقتاً طويلاً لإنهائها بالتقنيات المطلوبة لضمان السلامة.
 وأخيراً يكون موعد حياكة الأشرعة التي قد ينفذها أيضاً صناع السفن أنفسهم، وقبل جهوزية السفينة لنزولها إلى البحر، تُدهن بمادة عازلة وضد الماء، حتى تبقى قوية ومتينة ولا تتآكل أو تتأثر بالملوحة.

روتين العمل قديماً
وأوضح الظاهري أن رحلة صناعة السفن طويلة وشاقة، من الصباح الباكر حتى المغيب، فلا يهدأ الحرفي ولا يترك العمل إلا وقت الصلاة والطعام، ليواصل بعد ذلك مهامه حتى يستطيع إنجاز المراحل بحسب تقنياتها الدقيقة. وقال إن العمل في «القلافة» لا يتوقف بين بناء المراكب والسفن الجديدة أو تصليح وصيانة القديم منها.
ويزداد العمل في هذه الحرفة خلال فصل الصيف، وذلك لهدوء موج البحر وسكونه، بحيث يتوجه أهالي البحر ممن يملكون قوارب الصيد الصغيرة كـ «الشاش» من دخول البحر لصيد الأسماك وبيع الفائض منها. 

ساعات طويلة
حول أوقات ممارسة حرفة «القلافة» في شهر رمضان، ذكر عبدالله الظهوري أن العمل أثناء الصيام لا يختلف عن بقية أشهر السنة. وعلى العكس كانت وتيرة العمل تزداد قبل عيد الفطر، حيث كان الأجداد يقضون ساعات طويلة في العمل، ولا تهدأ سواعدهم أو ترتاح إلا عندما يحين موعد الإفطار.

تحف فنية 
مع تغير ظروف الحياة للأفضل، انحسرت الكثير من المهن التقليدية القديمة، ومنها «القلافة»، حيث استعان الصيادون بالمراكب المتطورة التي سهَّلت عملية الصيد. غير أن عبدالله الظهوري لا يزال متمسكاً بها، معتبراً أنها حرفة متوارثة لا يمكن أن تضيع وسط هذا الزخم من التطور. وأضاف: عكفت على الاستمرار بهذا التقليد بحرفية الأجداد من خلال صناعة مجسمات من السفن التقليدية القديمة، عبارة عن تحف فنية توضع للزينة، لتعريف الجيل الحالي بحرفة «القلافة» التي نخشى أن تندثر، ولا يبقى إلّا مسمّاها.