أحمد مصطفى العملة
من لحظة أن نغادر الفراش في الصباح الباكر، وحتى عودتنا إليه في وقت متأخر من المساء، نواجه جميعا ً خيارات لا محدودة. ماذا سنأكل أو نشاهد أو نستمع أو نقرأ أو حتى نشتري؟. في عهد البراءة الأولى - عصر ما قبل التقنيات الحديثة - كانت خياراتنا بناء على خبراتنا وتجاربنا الحياتية وما نتعلمه في البيت والمدرسة والشارع ومن الأقارب والجيران. الآن ليس الأمر كذلك. ففي عصر «نتفليكس» و«أنغامي» و«أمازون» وما شابه، ربما ليس أنت الذي تختار ما تريد، حتى ولو ظننت غير ذلك. «هم» يختارون لك.. يفعلون ذلك خفية، من دون أن تشعر... من «هم» هؤلاء؟! لا أحد يعرف على وجه الدقة. لكن وفقاً لما هو معلوم بالضرورة ، فإنه الذكاء الاصطناعي. فالخوارزميات العجيبة التي يعتمد عليها تضع لنا عشرات التصنيفات والقوائم. فتحدد لنا  ما نشاهد من أفلام وما نسمع من موسيقى، وما نقرأ من كتب، بل وما نشتري، وأحياناً ما نأكل.للوهلة الأولى، سنصر بعناد على أننا أصحاب الاختيار، لكن البعض يقول إن البيانات الهائلة التي تختزنها أنظمة الكمبيوتر الحديثة التي اجتاحت كل شيء في حياتنا، هي التي تؤثر بطريقة أو بأخرى على سلوكنا داخل وخارج الفضاء الإلكتروني. إنها تدفعنا أو تدفع إلينا، ما ينبغي أن نستهلكه إعلامياً، بطريقة تجعلها تبدو كما لو أنها تفضيلاتنا واختياراتنا نحن.. بينما في الحقيقة، اخترنا ما اخترناه، وفق القوائم التي تصادفنا أينما ذهبنا.. فهذا هو «الأكثر مشاهدة» وذاك هو «الأكثر تفضيلا» وهذه هي «الأكثر مبيعا» وهذا هو «الأكثر شعبية» أو«الأعلى قراءة»، ناهيك طبعاً عن «اختيارات المحرر». أضف إلى ذلك تصنيفات تفصيلية مدهشة أخرى .. مثل «أغان للسيارة» و«أفلام من قصص حقيقية» و«أفلام من قاعات المحاكم». تقول تلك الشبكات الجديدة أن ما تضعه في المقدمة أمام أعيينا هو بناء على ما سبق أن شاهدناه أو استمعنا إليه من قبل، لكن الحقيقة أن جزءا كبيرا مما يحدث يتعلق بدفع الملايين إلى مشاهدة مواد بعينها، من خلال تصنيفها وترتيبها بطريقة معينة، تدفع مزيد من الجمهور إلى «الأكثر مشاهدة». إنها لعنة «الترند» يا صديقي.
يقول ديفيد بيير أستاذ علم الاجتماع في جامعة يورك البريطانية: «اللاندسكيب الثقافي» الخاص بنا صار الآن نتاج التقنية الحديثة. هذه الخوارزميات لا تستجيب فقط لذائقتنا.. إنها تعيد تشكيلها والتأثير فيها». يضيف بيير «التركيز أكثر من اللازم على الخوارزميات يتجاهل التحول الثقافي الذي يحدث.. من أجل أن تجعل كل هذا المحتوى قابلا للتعامل معه بيسر وسهولة، عمدت منصات البث التدفقي إلى وضع طرق جديدة لتنظيم وتصنيف الثقافة لنا.. التصنيفات التي يستخدمونها لوضع عنوان ثقافي جذاب لمختلف الأصناف دائما مهمة وذات تأثير». من هذه الزاوية صارت تلك المنصات عبر القوائم تسهم في تشكيل ذواتنا وتصوراتنا عن العالم من حولنا. من ثم تتشكل داخلنا وحولنا منظومة قيم جديدة، تنبت خفية، بطريقة ناعمة في مكان ما من روحك وعقلك وفي خبايا قلبك، فتتبدل المواقف والخيارات والتوجهات صوب جهات لم تكن من تتخيل من قبل أنها ستكون قبلتك التي تهوي إليها، وكأنك صرت شخصا آخرا بتغير ذائقتك وقائمة تفضيلاتك. يشبه الأمر كثيرا أن نقع تحت تأثير الأخبار الكاذبة والحقائق البديلة دون أن نشعر.
وربما ينتهي بنا الأمر وكأننا صرنا نعيش في عالم موازي متوهم ومتخيل، تشكلت فيه شخصياتنا وأفكارنا وأذواقنا بفعل واختيارات من خارج ذواتنا.
فحتى الدوائر الاجتماعية التي نحيا فيها تتأثر، أيضا بما نشاهده تحت تأثير نظام التصنيفات العجيب، مما يعني أن ذلك النظام يمكن أن يحدد لنا مع من نتواصل اجتماعياً، كما يقول عالم الاجتماع البريطاني.
المفارقة هنا أن الجمهور الذي يستمتع كثيراً بأفلام خيالية ضخمة تبثها منصات مثل نتفليكس، عن مؤامرات كونية كبرى للهيمنة على عقول مجتمعات بأكملها، ربما هو نفسه يتعرض لعملية مشابهة تقريباً، بطريقة أو بأخرى، لأن الأمر بالتأكيد يتجاوز تأثير الخوازميات وقوانين العشوائيات.