لا زلت أذكر بدايات ظهور الإنترنت، الأمر الذي يعتبره ابني أقرب لعصور ما قبل التاريخ.. وعاصرت ظهور مواقع الـ «سوشيال ميديا» التي انقرض منها ما انقرض واستمر بعضها الآخر.. ولاحظت مدى التغير الكبير الذي اجتاح طريقة تفكيرنا وسلوكنا وتعاملنا مع هذه المواقع..
في البداية، كان الواحد منا يقبل كل طلبات الصداقة.. حتى من أناس لا يعرفهم.. كنوع من التعارف وتوسيع البيئة الاجتماعية الافتراضية.. فقد كنا نعتقد أن الجميع مثلنا.. يرون الصواب والخطأ بنفس العين الذي نراه .. لكن مع الوقت، ومع حدوث الكثير من الأعاصير في منطقتنا، تبين أن أقرب الناس إليك قد يخفي وجهاً فكرياً لا تعرفه عنه بعد أن أتاحت له الـ «سوشيال ميديا» التعبير عنه.
ظهرت اختلافات لم نكن نعي بوجودها أصلاً في محيطنا الاجتماعي. هناك من يؤيد القضية «آ» وهناك من يعتبرها شراً مطلقاً ومن يرى من يؤيدونها شياطين.. أصبح الواحد منا يدرك أن الفضاء الإلكتروني لم يعد مساحة آمنة يقابل فيها الشاب أصدقاءه، بل إن ما يكتبه سيمر على المعيار الأخلاقي لخالاتك وعماتك، بل والغرباء الذين يعيشون في قرية نائية ما، والذين سوف يستنكرون هول هذا الكلام المريع!
أبسط مثال على ذلك هو الذوق الموسيقي.. ولن تذهب لحفل موسيقي ما لم تكن محباً لهذا النوع.. لكن تخيل ما سيحدث حين تكون مكبرات الصوت أعلى من اللازم وينفتح باب الحفل على مصراعيه لدخول كارهي الفن والموسيقى.. هذا ما فعلته الـ «سوشيال ميديا»! أنا شخصياً، لم أتلق سباباً في حياتي، أكثر مما تلقيته في صفحة «المعجبين» بأعمالي!
اليوم، ظهرت حاجة لخلق فقاعة شخصية يقابل فيها الإنسان من يشبهونه.. وأصبح الواحد منا يحرص عند التعبير عن آرائه حرصاً من الرقابة الاجتماعية.. وهو أمر سبقتنا فيه الدول الغربية.. فعلي عكس مجتمعاتنا التي تعطي قيمة كبيرة للانسجام الفكري، فإنهم أدركوا مبكراً حجم اختلافاتهم.. كانوا يقولون لنا في الاتحاد الأميركي للإدارة مثلاً، ضرورة تجنب ضرب الأمثلة السياسية أو الدينية.. وهو ما لم أفهمه وقتها، لكن أدركته واقتنعت بضرورته تماماً اليوم!
خلاصة القول.. لم تعد الـ «سوشيال ميديا» جلسة جميلة تقضيها مع أصدقائك في المقهى.. بل أصبح يجالسكم على نفس الطاولة غرباء لا يطيقون أمثالكم، بينما يصغي لكم القهوجي كي يحظر دخول من لا يعجبه كلامه!