تحقيق:  د. شريف عرفة

«أسماء» امرأة عربية في الثلاثينيات من العمر، تعمل في خدمة العملاء بالقسم العقاري لأحد البنوك. تحكي عن حياتها في الإمارات قائلة: «حين أسافر لأي مكان، وأرى طرق المعيشة والوضع العام للناس، أعود في كل مرة مقتنعة تمام الاقتناع بأننا في الإمارات نعيش حياةً سعيدة حقاً..»
لا يبدو مبعث كلامها العاطفة أو اعتياد البلد الذي عاشت فيه وألفته، بل يبدو متسقاً مع مؤشرات دولية عديدة. 
في تقرير السعادة العالمية 2021 حافظت الإمارات على مكانتها كأسعد دولة عربية للعام السابع على التوالي، متقدمة على دول مثل إسبانيا وسنغافورة واليابان، حيث تم ترتيب الدول اعتماداً على مجموعة من عوامل القياس (هي: نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي- الدعم الاجتماعي- الخدمات الصحية- الحرية الشخصية- الكرم في المجتمع)، إلا أن العرب عموماً لا يحتلون مكانة متقدمة في مؤشرات السعادة، حيث نجد ثماني دول عربية في الثلث الأخير من هذه القائمة، رغم ما تتمتع به الشعوب العربية من انسجام لغوي وعرقي وثقافي، تعتبره دول أخرى مصدر سعادتها (مثل الدول الاسكندنافية). 
وهو ما يدعونا للتساؤل.. لماذا؟
وما العوامل التي يمكنها أن تجعل العالم العربي أكثر سعادة؟

  • فيليب زيمباردو

الارتباط الضمني بالأسرة والجماعة
لا يميز الشعوب العربية فقط، بل يعد مصدراً لسعادتها أيضاً. حيث أكد لنا البروفيسور «فيليب زيمباردو» أحد رواد علم النفس الاجتماعي، الأستاذ بجامعة ستانفورد: إن الدعم الاجتماعي والشعور بالحميمية مع العائلة والأصدقاء، من العوامل التي تزيد السعادة عموماً، وهو ما يتوافر بشكل أكثر تلقائية في المجتمعات الجماعية على وجه الخصوص.

  • لويز لامبرت

هذه السعادة الجماعية ليست كلاماً نظرياً، بل رصدتها نتائج بيانات دراسة أجرتها البروفيسور «لويز لامبرت» الباحثة بالجامعة الكندية في دبي. حيث تقول:
- حين نسأل المشاركين عن الأشياء التي تحقق لهم السعادة، يعطي العرب إجابات تختلف عن غيرهم، مثل: حين يكون أهلي فخورين بي، أو حين يكون من حولي سعداء. بينما في الغرب يذكر الناس أهدافاً فردية مثل: حين أشعر بكذا أو حين أحقق الإنجاز الفلاني!
الآخر حاضر دائماً في سعادة العربي، وهو أمر يمتد بجذوره في وجدانه الجمعي..

  • مارتن سليجمان

نقطة البداية 
يمكن اعتبار طرف الخيط هو البحث عن تعريف السعادة الذي تعتمد عليه هذه المؤشرات. سألنا البروفيسور «مارتن سليجمان» مؤسس علم النفس الإيجابي، فأجاب: 
إنّ المقياس واسع الاستخدام للسعادة يتلخص في: زيادة المشاعر الإيجابية، ونقص المشاعر السلبية وارتفاع الرضا عن الحياة. وإن هذه المعادلة تتحقق إذا ما توفر في حياة الإنسان خمسة عوامل أساسية، هي: (المشاعر الإيجابية- التفاني- العلاقات- معنى الحياة- الإنجاز). 
ويضيف «سليجمان»: إن الناس عبر الثقافات والعصور، يولون كل عامل من هذه العوامل الخمسة أولوية مختلفة، لكنها لا تنطبق على الأشخاص الذين يعيشون في ظل تهديد دائم. يعطي هذا الكلام تفسيراً لكون الدول الأقل سعادة، تعاني من صراعات دامية أو أزمات اقتصادية قاسية، تسلب المرء قدرته على تلبية احتياجاته الأساسية وشعوره بالأمان.
لكن في الظروف العادية، ما الذي يحدد أولويات هذه العوامل الخمسة في نفوس العرب؟

  • نوف الجنيبي

الخصوصية الثقافية 
تقول «نوف الجنيبي» مديرة مركز الإمارات لأبحاث السعادة، إن أغلب الدراسات المعنية بمفهوم السعادة عند الشعوب العربية، لم يقم بها العرب أنفسهم، وهو ما يشكل تحدياً لأنّ البعض يروج لمفاهيم عن السعادة، قد لا تتناسب مع العقلية العربية.

هذا التعارض في المفاهيم يبدو عميقاً لدرجة أن العاملين في مجال الصحة النفسية عليهم مراعاته. هذا ما وضحه لنا البروفيسور «أحمد عكاشة» الرئيس الأسبق للجمعية العالمية للطب النفسي، الذي أحالنا إلى بحث له يحمل عنوان «تأثير الثقافة العربية على أخلاقيات الطب النفسي» يوضح فيه أن الشعوب العربية جماعية وليست فردية.

  • أحمد عكاشة

ويضرب العديد من الأمثلة على ذلك: حين يخبر الطبيب الغربي مريضه بالتشخيص السيئ في وجهه دون مواربة، يعتبر العرب هذه قسوة. بينما قد يلجأ الطبيب العربي لإخبار الأسرة أولاً، كي تقرر كيفية وتوقيت نقل الخبر للمريض! وفي العالم العربي أيضاً، تتدخل الأسرة في قرارات شخصية عديدة للفرد، كالزواج. بينما في الدول الفردية يتخذ الإنسان قراراته الشخصية بنفسه ولا يحق لغيره بالتدخل.

العادات والتقاليد
يختلف العرب في نظرتهم للدين والعادات والتقاليد عن شعوب أخرى. في دراسة عربية (أجرتها جامعة الملك سعود، 2004) وجدوا أن 86,9% من المشاركين أيدوا فتح عيادات علاج بالقرآن في المستشفيات، في حين أظهرت دراسة نيوزلندية (أجرتها جامعة فيكتوريا بويلينجتون، 2014) أن الدين تراجع عندهم إلى المرتبة السادسة كمصدر لمعنى الحياة!
تقول «لامبرت»: إن الارتباط بالعادات الاجتماعية يعطي العربي إحساساً داخلياً بوضوح الصواب والخطأ، ما يصح ولا يصح، وأن هناك طريقاً محدداً مسبقاً يمكن السؤال عنه ومعرفته، لا إيجاده. وأن الخيار الصحيح يتم اكتشافه، لا اختراعه! على عكس مجتمعات أخرى، يبذل فيها المرء مجهوداً نفسياً لاتخاذ قراراته الشخصية، وتبين طريقه في الحياة بنفسه! تضيف «لامبرت»: إن هذا الوضوح مصدر اطمئنان للعربي، لكنه قد يكون مصدراً للخزي والذنب، لو اعتقد أنه يتعارض مع خياراته الطبيعية في الحياة.
يبدو أن ارتباط المجتمعات العربية بتقاليدها قوي لدرجة أن باحثين عرباً يرون أن واجبهم ليس دراستها فقط، بل وترسيخها أيضاً. تقول «نوف الجنيبي»:
مجتمعاتنا مرتبطة بالدين والعادات والتقاليد، وإجراء دراسات توضح علاقتها بمفاهيم السعادة وجودة الحياة يساعد الناس في التمسك بهذه التعاليم، وهو ما نحاول بثه من خلال المركز.

الدعم الخارجي
جزء كبير من سعادة العربي مستمد من خارجه، من أُسرته ومجتمعه، ودينه وتقاليده. ويكمن تفسير ذلك في أن في المجتمعات التقليدية يكون للفرد «مركز تحكم خارجي»، أي يعتبر أن حياته تتحكم فيها قوى خارجة عنه (مثل المجتمع أو القدر..إلخ) عكس الفرد في المجتمعات الغربية الذي لديه «مركز التحكم داخلي» معتبراً حياته صنيعة قراراته الشخصية فقط. حسبما يذكر البروفيسور «عكاشة» في دراسته سالفة الذكر.
هذه العقلية تفسّر نظرة العربي للدولة التي يعيش فيها. ففي حين يشعر العربي بهيبة تجاه السلطة ويحافظ على مسافة نفسية تفصله عنها (حسب نظرية هوفستيد لتقسيم المجتمعات)، فإنه يتطلع إليها ويعتبر أن لها دوراً كبيراً في تحسين مستوى حياته، باعتبار «مركز التحكم» لديه خارجي. 
فهل تلعب الدولة هذا الدور باقتدار؟

  • إدوارد دينر

المال وحده لا يكفي
بالنظر لتصدر الدول الغنية مقدمة مؤشرات السعادة، يطرح هذا السؤال نفسه: هل ثراء الدولة هو السبب الحقيقي لسعادة سكانها؟ 
أجابنا البروفيسور «إدوارد دينر» عالم النفس بمعهد جالوب وواضع التعريف العلمي للسعادة، قائلاً: «بالطبع يساعد الازدهار الاقتصادي في تلبية الاحتياجات الأساسية للناس، لكن المال وحده ليس السبب الأوحد للسّعادة في الإمارات، بل إن هناك عوامل أخرى كثيرة. معظم الناس يشعرون بالاحترام، ولديهم شخص يمكنهم الاعتماد عليه في حالات الطوارئ، الجريمة منخفضة نسبياً ويشعر معظم الناس بالأمان. ولديهم علاقات اجتماعية قوية وداعمة». وأضاف: «توفر الإمارات الظروف المواتية للرفاه والتنمية، والعلاقات الآمنة والداعمة، والبطالة المنخفضة، والخدمات الصحية. لهذا فالإمارات أفضل من كثير من العديد من الدول الأخرى في تحقيق السعادة لمواطنيها».

لا تشلون هم..
«الحوكمة» هي سر سعادة الإمارات. هكذا تلخص البروفيسور «لامبرت» الأمر، موضحة أن القادة يجعلون تسهيل حياة الناس وتلبية احتياجاتهم أولوية لهم، ويشجعون الأفراد على النجاح وتحقيق طموحهم الشخصي وإزالة المعوقات أمامهم، وهذا ما يحدث بشكل واضح نراه في تفاصيل الحياة اليومية. في بدايات جائحة كورونا، انهارت أنظمة صحية وتصاعد الخوف العالمي تجاه الغد، بينما أطلقت الإمارات شعار «لا تشلون هم»، وتعهد قادة الدولة بأن سلعة واحدة لن تنقص في الأسواق، وكانت من أوائل دول العالم في توفير اللقاحات. تقول لامبرت، إن الثقة في كفاءة الأداء الحكومي كانت مصدر اطمئنان عظيم للمجتمع في مواجهة الكثير من التحديات.

السعادة المجتمعية
حسب نظرية PERMA لمؤسس علم النفس الإيجابي مارتن سليجمان، فإنّ سعادة المجتمعات تزيد إذا ما زاد لدى أفرادها. ومن الملاحظ ارتباطها بمفهوم الحوكمة. 

سعادة واقعية
خلاصة القول، إن خصوصية العرب الثقافية تعطي وزناً أكبر لعوامل مثل العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية وانتظار دور تلعبه الدولة في حياة الفرد. وهو ما عبّرت عنه الموظفة البنكية «أسماء» في حوارنا معها، حيث أضافت: أشعر بالسعادة والفخر حين يذكر اسم الإمارات في كل مكان ضمن الدول التي تحتل الصدارة في عديد من المجالات، وكأنها حقاً وطني الأم، الأمان الذي أعيش فيه والحمد لله، والذي أخبر به أي أحد خلال سفراتي لدول أوروبا عندما أُسأل عنها، أحدثهم عن السهولة في إجراء المعاملات، والحياة الكريمة التي نحظى بها ونُحسد عليها.