لكبيرة التونسي (أبوظبي)

حين تتحدث حليمة أحمد سيف النقبي من الفريج «الشرقي» بخورفكان، فإنها تستدعي قصصاً من تاريخ متأصل وحياة اجتماعية واقتصادية قامت على التعاون والحب الصادق والجيرة الطيبة، جذبت الناس من مختلف الأنحاء لمنطقة زخرت ببساتين النخيل والفواكه ذات الرائحة الفواحة، بيوته من عرشان وخيام وإسمنت وحصى، رزقه من البحر والمزارع، تخزن ذاكرتها صوراً كثيرة من حياة أهلها الاجتماعية الذين جمعتهم قيم المحبة الصادقة والمودة والرحمة، تقاسموا القليل والكثير، اقترن اسمه بالسعادة والفرح والكرم والجود رغم بساطة العيش.
بالحديث عن حياتها في الفريح الشرقي الذي ولدت وترعرعت فيه، قالت إنه عُرِف بمياهه العذبة وبساتينه الخضراء، تأسس على التعاون والترابط، كما كان مشهوراً بإكرام الضيف واستقبال الغريب، لافتة إلى أنها وهي صغيرة ألفت الحراك الاجتماعي، حيث كانت تشاهد تجمعات الصيادين، وهم يجلبون خير البحر الوفير، ويجهزون السمك المالح، بينما كانت تسمع حكايات الجدات التي تؤكد أن الفريج كان صرحاً لتجمع الناس الذين يأتون إليه محملين ببضائع وتوابل وأقمشة الحرير، ويأخذون معهم السمك المالح والتمر والليمون والبيض والدجاج وغيرها من خيرات الفريج، مؤكدة أن خورفكان والذي أصبح قبلة للزوار من مختلف مناطق الدولة يعد من الأماكن التاريخية التي تزخر بالقلاع والحصون، جمعت محاسن الطبيعة والتاريخ والجغرافيا. 

  • حليمة النقبي تسترجع ذكريات الفريح (تصوير: صادق عبدالله)

كرم 
النقبي شاهدة على مجريات أحداث مازالت تخزنها ذاكرتها، بحضورها البهي تستحضر ما عاشته، من محبة فاضت من حنايا الفريج الشرقي أو ما كان يطلق عليه الحارة الشرقية: كان الناس يعيشون كأنهم أفراد أسرة واحدة، البيوت كما المزارع مفتوحة ينهل من فيض خيرها كل ناس الفريج وكل القادمين إليه من باقي المناطق أيام «القيظ»، حيث عاش أهله على التعاون والتكافل والتراحم، فيه كانت تزهو الطبيعة ويفوح التاريخ، وبسواعد أهله بنيت بيوته وسقيت مزارعه حتى أصبحت قبلة الباحثين عن البرودة والرزق الوفير والحياة الاجتماعية التي تسودها المحبة والإخاء، لعب أطفاله وسط المزارع والبساتين التي كانت تزخر بأنواع كثيرة من الخضراوات والفواكه الزيتون (الجوافة) والتين والفرصاد والبطيخ والبيدام والرمان «كنا نلعب وروائح الفواكه يزهو بها المكان، بينما كنا نبحث عن النبق ونتنافس على جمع أكبر قدر منه».

المالح
وقالت النقبي: إن الفريج «الشرقي» بخورفكان اعتمد في معيشته على الزراعة وصيد الأسماك، ومن الصور التي نشأت عليها انخراط أهل الفريج في عملية تمليح السمك، وكانت هذه المهمة تتوزع أدوارها بين النساء والرجال، حيث كان الرجال يأتون بالملح من البحر أو الجبال، بينما تجتمع ما بين 10 إلى 15 سيدة لدق هذه الحصوات الكبيرة من الملح للحصول على مسحوق ناعم، يستعمله الرجال في تمليح السمك، حيث كانت هذه العملية خاصة بالرجال، موضحة أن هناك العديد من أنواع الأسماك التي يتم تمليحها وأهمها سمك القباب والكنعد إلى جانب أسماك أخرى، مشيرة إلى أنه في مواسم الصيد يوزع الفائض من الأسماك الطازجة والمالحة على الجيران والأقارب. وأكدت أن أجرة بعض النساء التي تشارك في دق الملح غالباً ما تكون عبارة عن سمك أو أي منتوج آخر حسب المتوفر من خضراوات وفواكه وتمور، وفيما يخص طريقة حفظ السمك المالح، فقد أوضحت أنه كان بعد أن يملح ويوضع في أوان خاصة يعرض للشمس من أسبوع إلى أسبوعين، ثم يوضع في مكان مظلل وغالباً ما يتم تناوله في أوقات قلة الصيد أو اللحوم.

  • مزارع الفريج نقطة جذب في أيام القيظ

المقيظ
اشتهر الفريج الشرقي كما باقي فرجان خورفكان بالطبيعة الخلابة وبساتين وارفة الظلال ومياهه العذبة، مما جعله قبلة للمصطافين في الصيف، بحيث تعتبر رحلات القيظ من الطقوس المهمة التي اعتادها الإماراتيون قديماً للاستجمام بعيداً عن قيظ وشدة الحرارة، وارتبطت في ذهن حليمة النقبي بالعديد من الصور والمشاهد المرتبطة بفترة القيظ، حيث قالت: «كنا ننتظر بفارغ الصبر مجيء أهل الشارقة ودبي والذين كنا نطلق عليهم أهل «الحضارة» يجلبون معهم القهوة والسكر والملابس والبهارات.. بينما يتم استقبالهم بحفاوة بالغة، ينخرط الجميع في مساعدتهم في بناء العريش، ومن عاداتنا أن نكرمهم 3 أيام، وبعد ذلك يبدأ يباشر مهامه وحياته الاجتماعية حاله من حال أهل الفريج، يذهب لصيد الأسماك والعمل في المزارع ويأكل من خيراتها، وبعد أن تنتهي فترة القيظ يأخذون منهم البيض والدجاج والمخرافة والمالح والدعون...» 

أجرته من البيض
ومن الطقوس الاجتماعية الجميلة التي جمعت على الدوام أهل الفريج الشرقي صباحاً ومساء «الفوالة»، حيث تنادي النساء على بعضهن البعض من وراء العرشان والرجال على بعضهم البعض، ليتناولوا فوالة الضحى ليعاد هذا الطقس وقت العصر، وعلى الساعة 5 مساء يذهب أطفال الفريج لحفظ القرآن على يد المطوع بالنسبة للأولاد والمطوعة بالنسبة للبنات، والذي كان يتقاضى أجره كل خميس وعادة ما يكون عبارة عن 3 أو 4 بيضات، إلى جانب ما يجود به أهل الفريج من خيرات البساتين من خضراوات وفواكه ورطب وتمور، وعن الصور الاجتماعية الراسخة قالت: كنا نركب «الحابول» ونخرف النحل، الكل يتعاون، الجد والأب والحفيد، الكل يعمل بيديه، ولأن الحياة كانت مبنية على التعاون والعطاء، فإن أصحاب المزارع يوزعون ما يجنونه على الجيران والمعارف، ومن سمات التعاون بين الجارات أن الأم كانت ترسل أحد أبنائها لطلب قليل من الملح أو الدهن أو بصل من إحدى جاراتها.

  • اعتمد أهل الفريج الشرقي بخورفكان على صيد الأسماك والزراعة

قيلولة
من الطقوس التي كانت تعتبر مقدسة في الفريج الشرقي قيلولة الظهيرة، حيث السكيك فارغة من الناس، تلقائياً يلتزم الجميع كبيراً وصغيراً بهذه العادة، وقالت: «يبدأ الفريج حياته منذ الصباح الباكر، بإعداد الإفطار وقهوة الصباح، والقيام بالأعمال المنزلية ورعاية الحلال والصيد والعمل في المزارع والبساتين وبعد تناول وجبة الغذاء على الساعة الواحدة ظهراً، يذهب الجميع لأخذ قيلولة، بحيث لا تجد شخصاً واحداً وقت الظهيرة خارج المنزل، وذلك تجنباً لضربات الشمس، وعززت الأمهات هذا الطقس بسرد الخراريف مثل خروفة «حمارة القايلة» التي ترهب الأطفال الذين يحاولون التسلسل والخروج للعب خارج البيت.

هدايا العرس
أشارت حليمة النقبي إلى أن الأعراس كانت تقوم على التعاون والتكافل، حيث كانت هدايا الجيران والأهل والأصدقاء لأهل الفرح عبارة عن سكر وأرز وقهوة، بحيث يمتلئ البيت بالمؤونة، تذبح الذبائح ويتكفل الرجال بالطبخ، حيث كان إعداد طعام وليمة الزواج يتم في الهواء الطلق وبأيدي الرجال، بينما تكتفي النساء بتجهيز البصل وغسل الأرز، وتدوم الأفراح أسبوعاً كاملاً، بينما يعمل أهل الفرح على توزيع ما تبقى من المؤونة بعد الانتهاء من مراسيم الزفاف، ومن عادات العرس في الفريج أن يبقى العريس في بيت العروسة أسبوعاً كاملاً، وبعد ذلك يجتمع المقربون لأخذ العروسة لبيت زوجها حاملين زهبتها وسحارتها من ملابسها وذهبها، مشياً على الأقدام، بينما تستقبلهم أم العريس بالزعفران والعطور والدخون، مشيرة إلى أن العطور والدخون والطيب لها بعد اجتماعي في الأفراح، حيث كانت تستعمل العديد من الأعشاب والمواد للتطيب ومنها (الورس) وهي العشبة المعنية بإظهار اللون الأصفر الفاتح، تستخدم لصبغ «كندورة» المعرس، لرائحتها الفواحة الجميلة أو ما يطلق عليها محلياً بـ«الخنينة»، حيث كانوا يطحنون الحل ودهن العود والورس ويضعون فيه الكندورة 3 أيام وينشرونها في مكان مظلل ولا يعرضونها للشمس.

  • الألعاب الشعبية أجمل ما يلتصق بذاكرة أهل الفريج الشرقي

تعاون
من أكثر الأيام تجسيداً للتعاون وأجملها أيام الأعراس، التي كان يشهدها الفريج، حيث يتحول إلى ساحة مفتوحة لاستقبال الهدايا وتجهيز بيت العروس واستقبال أهل العريس، ينخرط الجميع في الإعداد للحفل الذي يقام على سواعد أبناء الفريج، حيث أوضحت حليمة  النقبي أن الجارات تهب لمساعدة أم العروسة ومدها بكل ما تحتاجه من أفرشة لاستقبال عائلة العريس، كما تشارك كل جارة بوجبة طعام كالبلاليط أو العرسية أو القرص أو الساقو أو النشا، فيما تعود الجارات بعد صلاة المغرب لمشاهدة زهبة العروس، وفي صباح اليوم الثاني تجتمع الجارات لتخيط ملابس العروس.