محمد وقيف
في عصرها الذهبي، كانت السجائر تُعتبر جذابة ومؤشراً على الرقي والتطور، لكن التحذيرات الحكومية بشأن خطر السجائر، إضافةً إلى حملة التوعية العامة والقيود على الإعلانات والقضايا المرفوعة بمليارات الدولارات ضد شركات التبغ.. ساهمت جميعها في تقليص شعبية السجائر. وظل التدخين في الولايات المتحدة في تراجع مطرد طيلة 50 عاماً الماضية، ما مثّل انتصاراً صعباً للصحة العامة. وهو ما يجعل من صعود السجائر الإلكترونية أكثر إثارةً للغضب، وخاصة لأنه يجذب ويستهدف أفراد الفئة العمرية نفسها التي أراد النشطاء المناهضون للتدخين حمايتَها بشكل رئيس، ونقصد بذلك فئة المراهقين. فما الذي حدث؟
ذلك هو السؤال الذي تحاول الإجابة عنه الكاتبة والصحفية الأميركية جيمي دوشارم في كتابها «شركات السجائر الإلكترونية الكبرى.. الصعود الحارق لـ(جول)». دوشارم تصف سيجارة «جول» الإلكترونية بالابتكار الرائد الذي سعى إلى مزاحمة شركات التبغ العملاقة، لكن بدلاً من ذلك انتهى به الأمر إلى أن أصبح شريكاً لها، وفي الأثناء، حقق المنتج نجاحاً باهراً، إذ وصلت قيمة «جول لابز» التقديرية، وفق دوشارم، إلى 10 مليارات دولار، أي أسرع من أي شركة أخرى في التاريخ. دوشارم تشرح كيف أصبح منتوج جديد يؤدي إلى الإدمان، وذو مخاطر صحية غير معروفة موجوداً في كل مكان، بما في ذلك المدارس الثانوية الأميركية.
إذا كانت معظم التحقيقات المتعلقة بشركات السجائر لديها أبطال وأشرار واضحون، فإن هذا الكتاب يصوّر مؤسِّسَي «جول» كشخصيتين مركبتين تتحديان الحكم الأخلاقي السهل. فآدم بوين وجيمس مونسيز التقيا كطالبين في جامعة ستانفورد في بداية العقد الأول من هذا القرن، حيث كانا صديقين يدخنان معاً، وغير قادرين على الإقلاع عن هذه العادة، فصمّما سيجارة إلكترونية، ووعدا بأنها ستبقي على المتعة التي يوفّرها تدخين السيجارة التقليدية ولكن من دون المخاطر السرطانية نفسها، وكان هدفهما نبيلاً بما يكفي: ألا وهو الانتقال بالمدخنين البالغين من سجائرهم التقليدية المميتة إلى بديل عالي التقنية وأكثر أمناً على ما يفترض. ولا أحد يجادل في أنهما كانا يريدان ابتكار سيجارة مختلفة كلياً، وهو ما تمكنا من تحقيقه في نهاية المطاف، ولكنهما أطلقا أيضاً ثورة السيجارة الإلكترونية الخطيرة بين المراهقين. فهل كان بوين ومونسيز شخصين يتمتعان ببعد نظر وتحدوهما نية حسنة قبل أن يفقدا السيطرة على الوحش الذي خلقاه؟ أم أنهما كانا رائدي أعمال أعمى الجشعُ أعينهما وآثرا بكل فرح التضحية بصحة الشباب في سبيل الثراء؟
الجواب على ما يبدو هو: قليل من الاثنين.
غير أن الأمر يتعلق بنجاح لم يتأتّ بين ليلة وضحاها، إذ سعى عدد من الشركات، بما فيها عمالقة شركات التبغ، إلى إيجاد التركيبة الصحيحة للطعم والتوزيع والتمييز التجاري للمنتج («البراندينغ»). وحقق بوين ومونسيز نتائج مختلطة مع سجائرهما الإلكترونية الأولى، ولكنهما في عام 2015 أطلقا «جول» (التي حوّلت لاحقاً إلى «جول لابز»). وكانت منتجات «جول» أنيقةً ومُرضيةً وتسوّق للشباب. إذ استعانت الشركة في حملتها الإعلانية والتسويقية بعارضي أزياء وشخصيات مشهورة في وسائل التواصل الاجتماعي، ووُزعت المنتج بالمجان في الحفلات الموسيقية والنوادي الليلية، وأطلقت نسخاً محدودة من أجهزتها بألوان جذابة. وفي استطلاع للرأي أجري في عام 2018، قال 21 في المئة من طلاب المدارس الثانوية إنهم دخنوا السيجارة الإلكترونية، خلال الثلاثين يوماً الماضية. وهذا مع العلم بأن السن القانونية لشراء سيجارة إلكترونية هو 18 عاماً على الأقل (أو 21 عاماً في بعض الولايات)، ومع العلم بأن مؤسسَي «جول» قالا إن المنتج موجّه في الأصل للبالغين. ومثلما تقول دوشارم، فإن «الإدمان على النيكوتين نموذج أعمال جيد جداً».
يوجد مقر «جول لابز» في سان فرانسيسكو، ويتناول الكتاب ثقافة الشركة المتحررة من القيود، والمتهورة أحياناً، كشركة ناشئة، ويشير إلى أن المديرين كانوا كثيراً ما يؤْثرون سلك أقصر الطرق ولا يشغلون أنفسهم كثيراً بالضوابط والتنظيمات. وهكذا، وعوضاً عن إجراء اختبارات صارمة تتعلق بالسلامة، مُنحت المنتجات أسماء تجذب المراهقين. وكان كل ذلك ناجحاً، على الأقل لبعض الوقت، ثم أدى نجاح «جول» إلى زواجها مع شركات التبغ الكبرى. ففي عام 2018، دفعت مجموعة «ألتريا جروب»، وهي الشركة الأم لشركة «فيليب موريس»، 12.8 مليار دولار من أجل حصة 35 في المئة من الأسهم في «جول لابز». وبذلك لم تعد «جول» غريماً ولا منافساً لشركات التبغ الكبرى، كما تقول دوشارم، وإنما شريك وطرف متواطئ.
لكن القوة الماحقة للسيجارة الإلكترونية لم تدم طويلاً. فمع أنها أكثر أمناً من السجائر التقليدية، فإن أي منتج نيكوتين يظل غير آمن، والآباء الذين لديهم مراهقون مرضى ومدمنون طالبوا بإجراءات في حق الشركة. وفي عام 2019، بدأ مدخنو السجائر الإلكترونية يصابون بالمرض، وبعضهم مات، ثم أظهرت البحوث أن معظم من أصيبوا بالمرض استخدموا منتجات تحتوي على مادة الـ«تي إتش سي»، وهي المكوّن المؤثر على النشاط الذهني في نبات القنب الهندي، والذي لا يستخدم في سجائر النيكوتين الإلكترونية مثل «جول»، ولكن القطاع كله تكبّد خسائر جراء ذلك. ثم حُظرت معظم السجائر الإلكترونية ذات النكهات، ورفع الادعاء العام على مستوى الولايات دعاوى قضائية، وأدانت السيدة الأولى ميلانيا ترامب الانتشار المتزايد لتدخين الشباب للسجائر الإلكترونية. ونتيجة لذلك، تنحت الإدارة العليا لـ«جول»، وترك المؤسسان قمرة القيادة. وفي ظرف 13 شهراً، هوت قيمة «جول» بـ68 في المئة، من 38 مليار دولار إلى 12 مليار دولار.
كتاب «شركات السجائر الإلكترونية الكبرى» يشرح القوة التي وراء اتجاه اجتماعي قوي يُضعف الصحة العامة ويشكّل في الوقت نفسه نموذجاً للكيفية التي بدّدت بها شركة تكنولوجيا ناجحة ثروتها. وكما تخلص دوشارم، فإن عجرفة رئيسي الشركة وقصر نظرهما لم يؤديا إلى «تفشي إدمان الشباب فحسب، ولكن أيضاً إلى انتشار المراقبة العامة، التي من غير الواضح أن (جول) ستتخلص منها قريباً».