ما هو التصرف الصحيح الذي عليك القيام به؟
كان أرسطو يرى أن الفضيلة هي الوسط الذهبي بين أمرين متطرفين.. فالشجاعة، تقع في مسافة متوسطة بين التهور والجبن.. والكرم، يكمن في مسافة متوسطة بين التبذير والبخل.. انظر لأي صفة حميدة وستجد أن التمادي في زيادتها أو نقصانها يقود إلى أمر غير محمود.. حسب وجهة النظر هذه، فإن أفضل الأمور أن تكون متوسطاً.. تسير في المنتصف دائماً.. لكن، هل هذا صحيح حقاً؟
هناك مشكلة دائمة تواجه كل من يحاول ويضع معياراً ثابتاً يحكم السلوك البشري المثالي.. لأن الأمر ليس بهذه البساطة، وفكرة المثالية مرتبطة بالسياق أكثر مما تتخيل..
فمثلاً، لو كان هناك خطر يهدد أسرتك.. أسد يهجم على طفلك.. هل ستكون متوسطاً وتتجنب التعرض له؟ أم يتحرك مؤشر الشجاعة لأقصى حد وإن وصل الحال لدرجة التضحية بالنفس؟ حسناً.. ماذا عن شخص يعبر الطريق من المكان المخصص لعبور المشاة، لكنه وجد سيارة تأتي مسرعة في اتجاهه رغم ذلك.. هل عليه أن يتحلى بالشجاعة ويتصدى لها لأنه على صواب؟ أم أن عليه أن يجري هارباً على الفور؟ ها قد تغير مؤشر الصواب مع تغير السياق كما ترى!
المشكلة أعمق مما تظن.. هناك تعريف شائع للسواء النفسي، يتعلق بالانسجام مع المجتمع.. هذا الشخص قادر على التواصل مع الآخرين وكسب عيشه والحياة بشكل متناغم في المكان الذي يعيش فيه.. لكن، هل هذا دائماً شيء صحيح؟
حين سئل عالم النفس الشهير «أبراهام ماسلو» عن اعتماد فكرة التكيف كمقياس للصحة النفسية هتف معترضاً:
«التكيف مع ماذا؟ مجتمع سيئ؟ أب متسلط؟ ما رأيك في «عبد» متكيف مع ذل العبودية؟.. من الواضح أن ما نسميه «اضطرابات الشخصية» يتوقف على الشخص المسيطر.. أهو مالك العبد؟ الطاغية؟ الأب المتسلط؟ الزوج الذي يريد لزوجته أن تظل طفلة للأبد؟ من الواضح أن مشاكل الشخصية قد تكون أحياناً احتجاجاً على تحطيم جوهر الإنسان. من يحتج على هذه الجريمة وهي ترتكب لا ينبغي اعتباره مريضاً!».. هذا ما قاله ماسلو.. وهو ما قد يوحي بمثالية مفهوم الفردية وعدم الخضوع للسلطة الاجتماعية.. لكن، هل هذا مثالي دائماً حقاً؟
منذ أيام، تظاهر الآلاف في مدينة لندن دون كمامات، رافعين شعارات منددة بإجراءات الوقاية من فيروس «كورونا».. نعم.. ضد إجراءات الوقاية.. ضد التباعد وضد اللقاحات وضد الكمامات.. تظاهرات تشبه من يشعل النار في جسد السفينة مطالباً بحريته الشخصية في الشعور بالدفء.. هل توحي هذه المشاهد بمثالية فكرة الفردية المطلقة حقاً؟ لا يمكننا تصور مثل هذه التجمعات في البلدان ذات الثقافة «الجماعية» التي يلتزم بها الناس بأعراف المجتمع.. لكن، هل الجماعية المطلقة هي الأخرى مثالية؟ هل كان على جاليلو إنكار دوران الأرض تماهياً مع المجتمع؟ لقد اعتذر الرجل لاحقاً إنقاذاً لنفسه.. فهل ما فعله خطأ أو صواب؟
هذه دائرة لا تنتهي من التساؤلات.. خلاصتها القول بأنه لا يوجد حل واحد ثابت يصلح لجميع المشاكل.. من يقول لك إن المنشار حل مشكلته، فإن هذا لا يعني أنه حل لمشكلتك أيضاً، والتي قد يلزمها مطرقة مثلاً.. قس كل شيء على مسطرة مستجدات الواقع وسياق حياتك أنت.. فما يصلح لشخص لا يصلح لآخر.. وما يصلح في موقف لا يصلح لآخر.. فلكل مقام مقال ولكل حادث حديث..
ولكل عصر عقليته ومتطلباته.