شعبان بلال (القاهرة)

في قرطبة عاصمة الأندلس التاريخية، وتحديداً في شهر مايو من كل عام، تتزين شوارع المدينة، وتفوح رائحة الزهور، فالملايين من الورود الملونة تتراص بأشكال مميزة على يمين الطريق ويساره وفي المنازل والباحات.
هدف واحد يجمع سكان المدينة في ذلك الوقت، وهو الحصول على لقب الفناء الأجمل في المدينة، في مهرجان يُطلق عليه مهرجان قرطبة للزهور، والذي اعتبرته منظمة اليونسكو العالمية جزءاً من التراث الإنساني العالمي.

انطلق مهرجان أجمل فناء في قرطبة للمرة الأولى في القرن العشرين، وتحديداً عام 1918، وبعدها بثلاثة أعوام أصبحت مسابقة رسمية تمنح الجوائز، وكان الهدف منها تشجيع أهالي المدينة على الحفاظ على تاريخ وثقافة مدينتهم الملونة.
وتقوم المسابقة على أكثر من جانب، فهناك العديد من الجوائز التي توزع منها لقب الفناء الأجمل، أفضل فناء تقليدي، أفضل فناء بلمسات دينية، أفضل فناء حديث، أفضل نافورة، وأفضل إضاءة، ويحصل الرابحون على جوائز نقدية لتشجيعهم على الحفاظ على تراث المدينة وإطلالتها الجمالية.

واعتاد أهل قرطبة على إطلاق المهرجان في بداية شهر مايو من كل عام، ولكنهم يستعدون طيلة العام بالزراعة والتنظيم والتزيين، ويفضل أهل المدينة زهرتي الياسمين والقرنفل لما لهما من تأثير جمالي على المنازل، ولأن ألوانها تتناغم مع الفسيفساء الإسلامية التي تنتشر في المدينة منذ الحكم الإسلامي لقرطبة. وقبل الافتتاح الرسمي للمسابقة يطلق السكان معركة الزهور، وهي عبارة عن موكب من مئات الزهور يسير في ممرات قرطبة، فيكون بمثابة إعلان بدء المسابقة، ليأتي بعدها دور المشاركين في المهرجان.

وخلال فترة المهرجان يفتح القرطبيون المشاركون في المسابقة منازلهم أمام الزائرين من أهل المدينة، ومن كل المناطق والدول المحيطة، حيث يحظى مهرجان ومعرض زهور قرطبة باهتمام عالمي من محبي الجمال والتراث.

كنوز معمارية
عام 2012 اعتبرت منظمة اليونسكو العالمية باحات قرطبة جزءاً من التراث الذي يتوجب حمايته والحفاظ عليه، وهكذا حظي المهرجان باهتمام عالمي، وأصبح فرصة للتعرف على الكنوز المعمارية في مدينة قرطبة التاريخية. وتكوّن الأشجار والنباتات النادرة وأزهار القرنفل والياسمين جزءاً من المهرجان، ولكن أشكال النافورات التي تغيرت عبر الزمن هو المكمل للباحات، ففي كل عصر من العصور يتغيّر شكل النوافير، ويضاف إليها الزخارف حسب ثقافة كل عصر، وأشهرها النوافير الرخامية التي بناها العرب، ولا زالت على حالتها حتى الآن.

وعلى مدار السنوات ظلت المسابقة تتوسع في الفئات التي تقدم فيها الجوائز حتى أضيف إليها مؤخراً مسابقة بين الشرفات، حيث تغطى النوافذ والشرفات بكميات كبيرة من الورود الملونة، وتكون فرصة لمحترفي التصوير بالتقاط صور مبهجة لا تنسى، ولاقت هذه الشرفات اهتماماً من جمهور المسابقة في الأعوام الأخيرة.
وبعد كثير من الأعوام التي قال فيها أحد الشعراء ستكون باحات قرطبة من أجمل الساحات في إسبانيا، تحققت نبوءته، وأصبحت باحات قرطبة من بين الأجمل في العالم وليس في إسبانيا وحدها.

قرطبة.. رومانية الأصل.. عربية التطوير
في العصر الروماني اعتاد أهل مدينة قرطبة بناء منازل ذات باحات واسعة للهروب من حر المنازل بالداخل، وكانت مركزاً لاجتماع العائلات واستقبال الضيوف لقضاء سهرات في الهواء الطلق.
وعندما جاء العرب، وأصبحت الأندلس مركزاً للحضارة وكانت عاصمتها قرطبة، وبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة، أراد العرب الحفاظ على هذه الباحات، فأضافوا إليها نوافير المياه لتحافظ على برودة المنازل وتحميهم من المناخ الجاف.

وأضاف العرب أيضاً الورود إلى الباحات، فأصبحت ملونة ومبهجة، وما زالت بعض هذه الباحات قائمة إلى الآن وتحافظ على شكلها التقليدي، ويعود تاريخ بعضها إلى القرن العاشر الميلادي، ثم غادر العرب ليأتي مكانهم المسيحيون في القرن الثالث عشر، وعندها اختاروا أفضل منازل المدينة، وركزوا على تعزيز مفهوم الجمال في كل فناء دخلوه، وسكنوا فيه بدلاً من العرب. واستمرت الباحات بشكلها التقليدي حتى القرنين الثامن والتاسع عشر الميلادي، حينما أراد الديكور الحديث أن يتخذ لنفسه مكاناً في التراث الإنساني، فأضيفت الزخارف الرخامية إلى الباحات، واستمر الوضع حتى القرن العشرين.