ساسي جبيل (تونس)

المساجد في تونس تحف حضاريّة بُنيت بها الحضارة العربيّة الإسلاميّة منذ الفتح الإسلامي، وما زالت شاهِدة على تجذّر هذه الحضارة ومبعث هويّتها واشتهرت العديد منها في تونس، ويعتبر جامع الزيتونة أو الجامع الأعظم ملتقى للعبادة والمعارف من خلال المنظومات المتتالية من التدريس وتخريج الحلقات تلو الحلقات من علماء وأئمة ولغويين وقضاة، وبالإضافة إلى أنه مكان عبادة، فإنه يحتضن عدة احتفالات دينية، مثل المولد النبوي الشريف وليلة القدر في رمضان، وغيرهما من المناسبات، وهو المسجد الجامع الرئيسي في مدينة تونس العتيقة، وأكبرها وأقدمها، ولم يكن المعمار وجماليته الاستثناء الوحيد الذي تمتع به، بل شكل دوره الحضاري والعلمي الريادة في العالم العربي والإسلامي.
تأسس جامع الزيتونة في عام (79 هـ) بأمر من حسان بن النعمان، وأتمه عبيد الله بن الحبحاب في 732م، ويعتبر ثاني أقدم مسجد في تونس بعد جامع عقبة بن نافع. يقع على مساحة 5000 متر مربع، ولديه تسعة أبواب، وقاعته الداخلية تتكون من 184 عمود «إنشاء»، آتية أساساً من الموقع الأثري بقرطاج.
وترجح المصادر التاريخية أن نواة جامع الزيتونة كانت في أرض تتوسطها شجرة زيتون ومنه سمي جامع الزيتونة.

سقوف منبسطة
كان جامع الزيتونة محور عناية الخلفاء والأمراء الذين تعاقبوا على إفريقية «تونس حالياً» إلا أن البصمات الأكثر بقاء هي التي كانت أثناء فترة حكم الأغالبة لتونس، وكانت محاكاته بجامع القيروان أهم المميزات التي طبعت معماره، فبيت الصلاة على شكل مربع غير منتظم وسبع بلاطات مسكبة معمدة تحتوي على 15 متراً مربعاً، وهي مغطّاة بسقوف منبسطة، وقد اعتمد في بنائه أساساً على الحجارة مع استعمال الطوب في بعض الأماكن، كما أن قبّة محرابه مزركشة بزخرفة على كامل المساحة الظاهرة في الطوابق الثلاثة بزخارف بالغة في الدقة تعتبر الأنموذج الفريد الموجود من نوعه في العمارة الإسلامية في عصورها الأولى.
ومثلما اختلف المؤرخون حول باني هذا المسجد الجامع، فقد اختلف الرواة حول جذر تسميته، فمنهم من ذكر أن الفاتحين وجدوا في مكان الجامع شجرة زيتون منفردة فاستأنسوا بها وقالوا: إنها لتؤنس هذه الخضراء وأطلقوا على الجامع الذي بنوه هناك اسم جامع الزيتونة، ومنهم من يؤكد رواية ابن أبي دينار في وجود قبر القديسة سانت «أوليفيا باليرمو» (أو قديسة الزيتون، حيث بني الجامع».

جمالية معمارية
يتميز جامع الزيتونة بجمالية معمارية قل أن تجد لها نظيراً، كما شكل مركزاً علمياً وحضارياً متميزاً في العالم العربي والإسلامي، إذ يعتبر جامعة إسلامية بكل المقاييس، حيث إنه كان منذ تأسيسه مركزاً للتدريس ساهم مساهمة فعالة في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب، وفي رحابه تأسست أول مدرسة فكرية بإفريقية أشاعت روحاً علميّة صارمة ومنهجاً حديثاً في تتبع المسائل نقداً وتمحيصاً.
ومن أبرز رموز هذه المدرسة علي ابن زياد مؤسسها، وأسد بن الفرات، والإمام سحنون صاحب المدوّنة التي رتبت المذهب المالكي وقننته.
واشتهرت الجامعة الزيتونية في العهد الحفصي بالفقيه المفسّر والمحدّث محمد بن عرفة صاحب المصنّفات العديدة وابن خلدون المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع.
وتخرّج من جامع الزيتونة آلاف العلماء والمصلحين، إذ لم تكتف جامعة الزيتونة بأن تكون منارة تشع بعلمها وفكرها في العالم وتساهم في مسيرة الإبداع والتقدم وتقوم على العلم الصحيح والمعرفة الحقة والقيم الإسلامية السمحة، وإنما كانت إلى ذلك قاعدة للتحرير والتنوير ساهمت في ترسيخ الهوية الإسلامية وتخرجت منها زعامات وطنية، مثل: المؤرخ ابن خلدون، وابن عرفة، وإبراهيم الرياحي، وسالم بوحاجب، ومحمد النخلي، ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير، والشيخ الفاضل بن عاشور، ومحمد الخضر حسين شيخ جامع الأزهر، ومحمد العزيز جعيط، والمصلح الزعيم عبد العزيز الثعالبي، وشاعر تونس أبو القاسم الشابي، والطاهر الحداد، بالإضافة إلى عدد غير قليل من النخب المغاربية والعربية والإفريقية.

الأروقة الثلاثة
جامع الزيتونة يشبه في هندسته وزخرفته جامع قرطبة في إسبانيا وجامع عقبة بن نافع في القيروان، حيث يرتكز صحن الجامع على أعمدة ذات تيجان، بينما الأروقة الثلاثة الأخرى ترتكز على أعمدة من الرخام الأبيض المستورد من إيطاليا في منتصف القرن التاسع عشر. وتوجد في منتصف الفناء أو الصحن، مزولة شمسية، تساعد على تحديد أوقات الصلاة، كما قبة الصحن الموجودة في مدخل قاعة الصلاة، والتي تتكون من زخارف من حجر المغرة والطابوق الأحمر.

إشعاع إسلامي عالمي
تجاوز إشعاع جامع الزيتونة حدود تونس ليصل إلى مختلف البلدان الإسلامية واعتبر المفكر العربي الكبير شكيب أرسلان إلى أنه يعتبر إلى جانب جامع الأزهر والجامع الأموي والقرويين بفاس المغربية أكبر حصن للغة العربية والشريعة الإسلامية، إذ اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامية منذ تأسيسه وتثبيت مكانته كمركز للتدريس، وذلك عبر جامعة الزيتونة، وقد لعب الجامع دوراً كبيراً في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب، وفي رحابه تأسست أول مدرسة  فكرية بإفريقية أشاعت روحاً علمية صارمة ومنهجاً حديثاً في تتبع المسائل نقداً وتمحيصاً، وعرف علماؤه ورجال الدين فيه وخريجوه بالوسطية والاعتدال مما جعله منارة للانفتاح الديني، وهو ما كرس دوره في نشر إسلام التسامح والتعايش، وكان التعليم فيه نظامياً لقرون، وفي هذا الإطار يقول العلامة عبدالرحمن بن خلدون: «كان جامع الزيتونة بمثابة المؤسسة الجامعية التي لها قوانينها ونواميسها وعاداتها وتقاليدها ومناهجها وإجازتها وتشدّ إليها الرحال من مختلف أنحاء المغرب العربي طلباً للعلم أو للاستزادة منه».

مكتبة الجامع
يضم جامع الزيتونة مكتبة  تأسست في القرن السابع الهجري، مزودة بأربعين ألف مخطوط، ثم تم تزويدها بأهم الكتب وأكثرها قيمة من شراء وأهداها المهاجرون من الأندلس العديد من المؤلفات والكتب التي أتوا بها إلى تونس، كما يزودها العلماء بالعديد من المؤلفات الدينية والدراسات الإسلامية من كتب لتفسير القرآن أو الحديث أو الفقه وأصوله وغير ذلك من العلوم، وتم حفظها في خزائن خاصة بها مما حفظها من التلف والترهل، وأفادت الباحثين والدارسين.