شعبان بلال (القاهرة)
التقى التجار المسلمون الأوائل بأهل مدينة قوانغتشو الساحلية واستقروا فيها وقرروا بناء أول مسجد في الصين، ليكون مسجد هوايشنغ مقراً لأداء الصلاة والعبادات ومناقشة أمور دينهم ودنياهم.
يتحدث بلال أحمد، الباحث في الآثار الإسلامية للاتحاد عن الروايات المختلفة التي رافقت بناء أقدم مساجد الصين على الإطلاق، فيشير إلى الرواية الأكثر انتشاراً، وهي بعثة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص إلى الصين الحضارة العملاقة.
وظهرت هذه الرواية للعلن مع وجود ضريح أحد أئمة المسلمين على جسر ليوهوا، بالقرب من البناء الأول للمسجد، وكتب عليها ضريح الحكيم المرحوم، وهذه عادة الصينيين عندما يريدون تمجيد أحد الأشخاص، ولكن لم تظهر النقوش العربية اسم صاحب الضريح.
يفند أستاذ الآثار الإسلامية هذه الرواية لأن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص لم يذهب يوماً إلى الصين، وإنما عاش في المدينة المنورة، وذهب فترة إلى مدينة القادسية بالعراق، ثم عاد إلى المدينة ليدفن فيها.
ويرجح أن تكون هذه الرواية قد أخذت طريقها إلى الشهرة بسبب نزول أحد المسلمين الأوائل الذي عرف بسعد وقاص إلى الصين، وكان سبباً في وصول الإسلام بمدينة قوانغتشو، والخليج العربي، وخليج البنغال، وبحر الصين الجنوبي، ولهذا يثبت المنطق أن صاحب النقوش والضريح هو سعد وقاص وليس الصحابي الجليل.
هوايشنغ
وجاء ذكر اسم المسجد في أحد الكتب بعنوان فصول تانغ الستة، وهي الأسرة الحاكمة التي بني في عهدها المسجد، وتشير صفحات الكتاب إلى أن الجنرال هوايشنغ، هو من سمح ببناء المسجد، ولهذا أطلق عليه اسمه، ولكن النقوش على حوائط المسجد ترفض هذه الرواية وتفندها أيضاً.
فالترجمة الحرفية لكلمة هوايشنغ تعني الحنين ، ولهذا ذهب المؤرخون إلى أن المسلمين الذين استقرت حياتهم وأعمالهم في المدينة الصينية الساحلية، حيث بنوا المسجد، شعروا بالحنين إلى نبيهم وحياتهم السابقة، وهكذا كل من دخل الإسلام بعد ذلك اقتداءً بأخلاق المسلمين أراد أن يرى النبي الذي آمن بها، ولهذا سمي المسجد الحنين إلى النبي أو بالصينية هوايشنغ.
دمار شامل
تعرض أقدم مسجد في الصين إلى الدمار ولم يتبقى منه إلا الأنقاض، وذلك في عهد تشنتشنغ لأسرة يوان، وكان ذلك في عام 1343م، ولهذا لا يمكن تخيل شكل المسجد القديم أو ما يميزه من عمارة جمعت بين الأسلوب العربي والصيني.
ويوضح الباحث بلال أحمد أن الملامح الأصلية للبناء لا يمكن وصفها، ولكن ظهرت مقالة تاريخية بعنوان مشاهدات في أثناء تفكيك قاعة مسجد هوايشنغ، والتي بدأت بوصف مكان المسجد في شارع قوانغتا، وأكدت أنه كان يغطي مساحة واسعة من الأرض، ويحيط به سياج قصير.
ذكر المقال أيضاً أن المسجد كان به سلم وممران مسقوفان، وعلى جانب الممرين تقف أشجار الصنوبر التي تشير إلى أن هذا المكان يتخطى بعض المئات من الأعوام، لكونها ممتدة الجذور يبدو على مظهرها الهرم والعجز، أما قاعة الصلاة التي يلتقيها الزائر بعد رصيف يرتفع 9 درجات فهي على شكل قصر صيني، ولكن هذه القاعة تعرضت أيضاً للدمار والهلاك بعد أن أدى فيها المسلمون الصينيون المحليون مئات الصلوات وانطلقت آلاف الدعوات إلى عنان السماء من هذا المكان.
لم تذكر كتب التاريخ
يطلق على المسجد أحياناً اسم المنارة، وذلك لأنه يتميز بمنارة عملاقة لا يعرف تحديداً تاريخ بنائها، ولم تذكر كتب التاريخ توقيت بنائها هل هو عهد أسرة تانغ أو في عهد التجديدات التي لحقت بالمسجد في فترة لاحقة.
وتحدثت بعض الكتب الصينية عن المسجد، منها كتاب ذكر أنه كان هناك منارة في المسجد ارتفاعها عشرات الأمتار، وكل ما نقش عليها كان باللغة العربية.
وقد تعرضت المنارة وقاعة الصلاة إلى السقوط بفعل عوامل الزمن، ولهذا قرر المسلمون إعادة تفكيكها وبنائها من جديد في ثلاثينيات القرن الماضي، وتخوفوا في البداية نظراً لضخامة المشروع وتكلفته الباهظة، إلا أنهم اتفقوا على جمع التبرعات وترميم المنارة وإعادة بناء قاعة الصلاة مهما كلفهم الأمر.
وبنيت قاعة الصلاة الجديدة في عام 1935 وكانت جاهزة لاستقبال أول صلاة من المسلمين، وكانت واسعة المساحة، مزودة بإضاءة جيدة، ولا تختلف عن رونق القصور الصينية آنذاك في شيء، ومنذ هذا اليوم يحرص المسلمون وأحفادهم على ترميم المسجد باستمرار، حتى يليق بكونه أول وأقدم مسجد في الأراضي الصينية.
فتح المسجد أمام الزائرين باعتباره مكاناً تاريخياً سياحياً بعد أن تم إدراجه على قائمة الآثار المحمية في مدينة قوانغتشو
نورس الشمس
تتزين المنارة من الداخل بسلمين لا يشتبكان مع بعضهما البعض، ويتكون كل واحد منهما من 154 درجة، ومع كل مجموعة من الدرجات يتسرب نور الشمس إلى المنارة ومصدره مجموعة من النوافذ التي رتبها المعماري بدقة، فبعد كل عدد من الدرجات المحددة هناك نافذة بزاوية معينة.
وتختلف المنارة عن مثيلاتها في الصين، فبنيت على الطراز الإسلامي، ولهذا أطلق عليها الأدباء والشعراء اسم المنارة الأجنبية في كتابتهم، ونقشت عليها نقوش عربية، وما زالت تقف على ساحل المدينة تشهد على أن المسلمين كانوا هناك.