لكبيرة التونسي (أبوظبي)

عندما يدخل الزائر إلى الفضاء الرحب لمهرجان الشيخ زايد بمنطقة الوثبة، لا يجد نفسه فقط أمام زخم من عادات وتقاليد الشعوب التي تعكسها عبر مختلف الفنون والاستعراضات، إنما أيضاً أمام مشاعر وأحاسيس وذكريات تسكن الذاكرة ولا تكاد تفارقها، فالمهرجان الذي يتواصل حتى 20 فبراير المقبل يشكل فعالية عابرة في الزمان والمكان، تتغلغل في الوجدان، حيث تتفاعل فيه روائح الطيب والدخون والعطور والمأكولات، لتشكل ميزة خاصة وعلامة من علاماته، ولعل رائحة البخور والدخون التي تنبعث من سوق الوثبة لتعطر المكان، تستدعي للأذهان ما مضى من الزمان.
يستمتع زوار المهرجان، بروائح الدخون والبخور التي تعتبر واحدة من أهم الصناعات التي يتم تحضيرها في البيت بطريقة آمنة وخالية من المواد الكيماوية، حيث تتنافس العديد من الدكاكين في عرض مجموعة كبيرة من الأنواع، التي تم تصنيعها يدوياً، ولا يخلو منها أي بيت إماراتي، ويزيد الإقبال عليها في جميع المناسبات، لا سيما الأعياد والأعراس.

اختيار
ويُعد البخور في الإمارات من أهم الصناعات العطرية التقليدية، التي برعت فيها الجدات واهتمت بإنتاجها وتطويرها، وبات يستخدم بشكل يومي في البيوت والمناسبات الدينية والاجتماعية ومجالس الضيافة ولتطييب الملابس، ويشكل أحد العناصر الأساسية في حياة الإنسان الإماراتي، وتميزت الجدات بصناعة أنواع مختلفة من البخور ومزجه بأصناف عدة من العطور والمسك والهيل ودهن العود ودهن الورد والعنبر والعطور الفرنسية، حيث يخضع اختيار الروائح لذوق الصانعة، لتضفي عليه ما يتناسب مع ذوقها وأحاسيسها ومشاعرها أيضاً، مع الحفاظ على روحه الأصيلة.

وصفات 
ويشهد سوق الوثبة إقبالاً كبيراً على هذه الأنواع من الدخون والبخور المصنوعة يدوياً وبأساليب عدة، إلى جانب الأدوات التي يعرض فيها، بينما تتحدد قيمة البيع حسب الكمية والمكونات ونوعية المواد العطرية المستخدمة فيها ومدى الجودة، كما أن بعض الوصفات المستخدمة تبقى سرية ولا يمكن الإفصاح عنها، حيث تمتلك كل سيدة أسرار صناعة البخور وبعض ما تضفيه عليها بحثاً عن التميز والتفرد، فهناك بخور يحضر من عجينة مكونة من مسحوق العود والمسك والعنبر، ويضاف إليها دهن العود وبعض العطور المميزة.
 وهناك أنواع على شكل أقراص مستديرة، منها الجافة والسائلة، وأنواع عادية تعتمد جودتها على كمية العطور المستخدمة، وتحضر الكثير من الأصناف وفق الطرق التقليدية، والبخور أو الدخون.. نوعان، سائل يصنع بإضافة مجموعة مختارة من العطور غالية الثمن لخشب العود، لمدة معينة ويُعد الأفضل، وهناك من يفضل إضافة العطور العربية، كما هناك من يرغب في إضافة عطور فرنسية، والآخر جاف ويخلط بعطور متنوعة ويطحن ليتحول إلى عجينة يسهل التحكم فيها وتشكيلها، وتتنافس السيدات بالمهرجان في حرق كمية قليلة منه في المبخرة، مما تتوافر عليه من دخون وبخور، وذلك لجذب الزوار. 

بخور معتق
مريم الشحي المشاركة في سوق الوثبة بمجموعة من الدخون والبخور، أكدت أنها مازالت وفية لصناعة البخور بالطريقة التقليدية، وفضلت هذه المهنة العريقة، والتي اعتبرتها من الصناعات القديمة التي لم تفارق حياة الأجداد، وتنشط هذه الحرفة في جميع المناسبات، ويزيد الإقبال عليها في المناسبات السعيدة كالأعياد، حيث يرتفع الطلب على منتجاتها المختلفة التي يعبق بها البيت الإماراتي، وتميزه عن بقية البيوت.
 وتحرص الشحي على صناعة الدخون عبر دفنها في الأرض، خاصة خلال فصل الصيف الحار، مؤكدة أن هذه الطريقة تجعل البخور والدخون مميزاً جداً، وقالت عن أسلوبها: أستمتع جداً وأنا أعمل على هذه الصناعة، فأن تكون محاطاً يومياً بمختلف العطور فهذا شيء مميز، ومن الأساليب التي نشأت عليها وما زلت محافظة عليها، هي أخذ خشب العود الأصلي وتعطيره بعطورات مختلفة ومنها دهن العود، وبعد أن أجهز كميات كبيرة جداً تفوق 100 كيلوجرام، أضعها في «الخرس» جرة كبيرة، وأدفنها تحت الأرض أيام الصيف الحارة جداً لمدة 3 أشهر، ونتجنب فتحها طوال هذه المدة، حتى لا يتسرب إليها الهواء.
وأضافت: بعد انقضاء المدة، نبدأ استعمالها مع تجنب وضع اليد في هذا المنتج، ونفضل استعمال أدوات صديقة للبيئة، مثل ملقط خشبي لتوزيع الكميات في علب صغيرة أو كبيرة حسب الطلب، بينما نعمل على طحن «سحالة العود» مسحوق العود ونضيف إليه العطور الفرنسية أو العربية حسب الذوق، ونضيف إليها السكر والمسك ومثبت الروائح، ونضعه في قنينات زجاجية كبيرة ونلفه بكيس نايلون، ويدفن كذلك تحت الأرض لمدة أسبوعين وبعدها نبدأ في استعماله، ومن جهة أخرى أوضحت الشحي أنها تفضل حرق الدخون والبخور في مدخن من الفخار؛ لأنه يحافظ على نكهته الأصلية وتدوم مدة حرقه طويلاً. 

ثقافة
مريم محمد من إدارة الصناعات التراثية والحرفية في الاتحاد النسائي العام، إحدى السيدات الماهرات في هذه الصناعة العريقة التي تعلمتها من جداتها وحافظت عليها، بل أوصلتها للعالمية، وهي وزميلاتها في المركز من خلال المعارض التي تشارك بها في مختلف أنحاء العالم.
وقالت عن هذه الصناعة، بحكم اختصاصها بهذا النوع من الجانب التراثي، إنها تحافظ على طابعها الأصلي منذ القدم، مع إضافة روائح جديدة، موضحة أن الطيب والبخور يشكل جزءاً أساسياً من أناقة البيوت قديماً، كما استمرت هذه العادة الجميلة إلى اليوم، فهي تستخدم لرائحتها الطيبة.

توقيع
وعن الإقبال على البخور في المهرجان، قالت: إن الطلب يزيد على هذه المواد، لا سيما أننا نقابل يومياً آلاف الزوار، كما أن المهرجان يستقطب مختلف الجنسيات، مما يجعلنا ننفتح على مختلف عشاق البخور والدخون، وأكدت أن الأسر الإماراتية تعمل يومياً على تطييب البيت وتبخيره، وأثناء اجتماع النساء والرجال في المجالس العائلية ومجالس الأصدقاء، حيث لا تزدان الجلسات والتجمعات العائلية دون الروائح العطرة التي تشكل جزءاً من ثقافتنا.
وعن البخور الذي توقعه مريم محمد باسمها وتطلق عليه العديد من الأسماء، تقول إنها تستخلصه من مكونات محددة، منها: سحال مطحون، وهو عبارة عن نوع من أنواع العود، يتم طحنه، ثم يضاف إليه المسك أو أحد المطيبات الأخرى، ويخلط بنوع من العطور القابلة للحرق، مشيرة إلى أنها تستعمل أجود العطور، وتضيف: «أحافظ على المكون الأساسي في جميع الخلطات، لكن أغير العطر العربي، بحيث أستعمل العديد من أجود الأنواع والعطور، وذلك لتكون رائحة البخور متجانسة مع الذوق الإماراتي، كما أستعمل في خلطه دهن العود، والفل، وبعد ذلك نضع الخلطة في قوالب لتعطي أشكالاً أنيقة.

إرث المهنة
قالت عفراء علي محمد حسن، مشاركة بسوق الوثبة في مهرجان الشيخ زايد، إنها تعمل في صناعة العطور منذ 40 سنة، وهي مهنة ورثتها عن والدتها، وتعلمتها منذ كانت طفلة صغيرة، حيث كانت تعتمد على الطبيعة وتخلط مواد بسيطة، وطورت صناعتها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن، حيث أصبحت تضيف العطور العربية على خلطاتها وتبتكر خلطات جديدة، موضحة أن وفرة المواد جعلتها تبدع خلطات جديدة توافق ذوقها وذوق زبائنها.
وأشارت إلى أن وفرة المواد لا تقتصر على أنواع الخلطات التي يمكن مزجها بمهارة، وإنما أيضاً على الأدوات التي يوضع فيها الدخون والبخور، حيث أصبحت متنوعة وفاخرة، وأصبحت تشكل جزءاً من ديكور البيت، حيث يخصص كل منزل زاوية لأنواع العطور والبخور والتي توضع في أدوات يتم اختيارها بعناية فائقة، وذلك لما يحظى به التطييب في الإمارات من مكانة بارزة منذ القدم، حيث لا يخلو منها بيت إماراتي، كما أنها تعتبر عنصراً أساسياً في المناسبات والأعراس والأعياد.