ناصر الجابري (أبوظبي)
يعد عبدالجليل بن محمد الفهيم، رمزاً وطنياً في مجالات الخير والدعم والمساعدة، يسابق المحسنين للوصول إلى المحتاجين، ويهب أيدي العطاء والبذل لكل صاحب مسألة، اقترب من أحوال الصغير والكبير فأحبوه، وأدرك مبكراً أن مجالات الخير تشمل القريب والبعيد، فكان حاضراً بخيره في دول شتى ومناطق عديدة، يستذكرون سيرته الملأى بصفحات المحبة والإخلاص، ويعودون إلى خصاله الحميدة التي تركت عطراً وبقت حاضرة إلى اليوم، بأولاده وأحفاده الذين يحافظون على سيرة رجل ارتبط مع الخير، فكان رفيق دربه طوال سنوات حياته.
بدأت حياة عبدالجليل الفهيم في زمن شهدت خلاله أبوظبي العديد من تحديات المعيشة، تحديداً في عام 1919، ورغم تلك التحديات إلا أنه رأى مجتمعاً صبوراً، يؤمن بأن المستقبل يحمل في طياته الكثير من الأخبار السعيدة، وشاهد عن قرب قصة الإصرار والتحدي لدى مختلف العائلات والتي تكاتفت فيما بينها لتجاوز مختلف الظروف، لا يهابون حرارة الصحراء ولا يتراجعون أمام اعتلاء الموج، بل يواصلون حكاية العمل المستمر، متسلحين بإيمانهم العميق وبشجاعتهم التي توارثوها أباً عن جد، فكانت تلك المشاهد التي نشأ عليها منذ صغره.
كان لوالده الوجيه محمد بن عبدالرحيم الفهيم، الدور الأكبر في صياغة تفاصيل حياته، وهو الرجل الذي اشتهر بمحبته للعلوم الدينية وبولعه للأدب، فكان كثيراً ما يقرأ العديد من الكتب، سواء التي تتناول الدين والأحاديث النبوية الشريفة أو دواوين الشعر، كما كان كثيراً ما يتحدث عن أهمية العلم والتعلم المستمر، باعتباره العامل الرئيس في تقوية عقل الإنسان وتوسيع مدارك أفقه، فاجتمع عنده الأفراد والجماعات من القبائل والعائلات، ليستمعوا منه عن قصص الأدباء والشعراء وغيرهم، فرأى عبدالجليل الفهيم من والده قيماً شتى، ومن بينها أهمية العمل ومواصلة دروبه، وضرورة أن يكون الشخص قادراً على التعامل مع مختلف فئات المجتمع بعلمه وبإدراكه وبما لديه من حصيلة لغوية ومعلومات وفيرة.
إن التأثير الذي وجده في الصغر، كان المفتاح الأول لتفاصيل حياة ممتدة، كثيرة المحطات المشرقة، حيث بدأ بالتعلم من والده ثم واصل مسيرته في التعلم، وأخذ العلوم الشرعية والدينية والأدبية على أيدي علماء الدين والفقهاء، فكان محباً لكل ما يرتبط بالعلم، وكثيراً ما كان يشبّه بوالده في مدى ارتباطه وتقديره للمعرفة برغم سنوات عمره الصغيرة، فذاع صيته وعُرف بسمعته الطيبة، كما كان في الوقت ذاته ينهل من والده الذي عمل في التجارة، أسرارها وكيفية النجاح فيها وفرص الارتقاء ضمن هذه المهنة، وأهمية توظيف الأموال في أعمال الخير، ومد يد العون إلى الآخرين من المجتمع.
الصفات التي نشأ عليها عبدالجليل الفهيم، جعلته من الأيام الأولى لشبابه، قريباً من الوالد المؤسس، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حيث بدأت حبال الصداقة تشتد، وزادت الألفة بينهما، فكان خير الناصح والمستشار والمؤمن بقدرة أبوظبي على التقدم، خاصة مع البدايات الأولى للحديث عن استكشاف النفط، حيث انتقل الفهيم للعمل إلى جانب الوالد المؤسس في مدينة العين، وهو الرجل الوفي الذي يرى ضرورة التوحد والتكاتف والترابط المجتمعي لأجل تحقيق الأهداف المنشودة التي لطالما حلم بها.
علم غزير
لم يكن قرار يصدر في العين، إلا وعبدالجليل الفهيم من أوائل الأشخاص الذين يسارعون في تنفيذه وتطبيقه، ولم يكن هناك مرسوم إلا وهو أول من يدرك تأثيراته وتبعاته المجتمعية المهمة، كان واثقاً من حكمة الوالد المؤسس وما يمتلكه من بُعد نظر ورؤية ثاقبة تجاه المستقبل، كما كان خلال اجتماعاته مع أفراد المجتمع والأعيان، كثيراً ما يتحدث عن رؤية الوالد المؤسس، وأن المجتمع على أعتاب نقلة نوعية من النهضة والتطور، وهو الأمر الذي جعله كثيراً ما يذهب إلى ممثلي القبائل لإبلاغهم بالقرارات الصادرة ليوضحها لهم ويخبرهم عن أسبابها ومدى أهميتها على الاستقرار المجتمعي.
إن ما تمتع به الفهيم من قدرات، وما لديه من علم غزير، سواء في الدين أو اللغة والأدب، جعلت الوالد المؤسس يختاره ليكون ضمن فريق عمله في مكتبه بقلعة المويجعي في منطقة العين، ليستعين بمهاراته ويوظف قدراته، حتى أصبح الفهيم الممثل الشخصي للأب المؤسس والذي يحمل توجيهاته لأفراد المجتمع، انطلاقاً من المميزات التي اتسم بها ونجاحه خلال تكليفه في المهام السابقة، إضافة إلى المكانة الاجتماعية التي كان يحملها ومدى الاحترام والتقدير الذي كان يكنه أعيان المجتمع له، تقديراً لشخصه وأخلاقه الحميدة والتي جعلته مثار إعجاب الجميع، ليصبح قدوة مجتمعية بصفاته وتعامله اليومي مع الجميع. واصل عبدالجليل الفهيم بداية تجارته التي امتدت لاحقاً لتشكل تجربة اقتصادية عائلية ملهمة، حيث تعامل مع التحديات بكل كفاءة واقتدار، واستطاع أن يدرس عوامل النجاح ويوظف إمكانياته ومهاراته التي صقلتها تجاربه وما عرفه عن والده، وهو الأمر الذي جعله وبرغم العديد من العقبات والصعوبات، مؤمناً بالقدرة على النجاح يوماً ما، وأن عوامل الارتقاء في قطاع التجارة عموماً متاحة مهما حمل الزمن من اشتداد في الظروف، ليكون بالتالي مثلاً لبقية أفراد المجتمع والذين رأوه يخطو الخطوات المتتالية في سلم النجاح التجاري.
هذه الأعمال التجارية، لم تتعارض مع الرغبة المتواصلة لدى عبدالجليل الفهيم في خدمة العمل الحكومي بأبوظبي، حيث منذ تسلم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مقاليد الحكم في أبوظبي عام 1966، كان عبدالجليل الفهيم من أوائل الرجال الذين تولوا المناصب القيادية في مختلف القطاعات التنموية بالإمارة، نظراً للسيرة المليئة بالتجارب والخبرات التي امتلكها، والدور الكبير الذي قام به خلال عمله في العين، ما جعله جدير بالثقة ليكون رئيساً لمجلس التخطيط في أبوظبي عام 1968، والذي يعنى بشؤون التطوير والتغيير والنهضة في مختلف المجالات، سواء التعليمية أو الصحية أو الزراعية أو الصناعية أو في مجال المواصلات والبلديات، حيث ضم أعضاء من مختلف القطاعات بهدف العمل على بناء وتشييد أبوظبي الحديثة.
خلال هذه الفترة التي رأس خلالها المجلس، كان عبدالجليل الفهيم شغوفاً بأهمية التطوير والتخطيط السليم من خلال توظيف الإمكانيات المتاحة حينها، وعبر ضرورة العمل الجماعي بين القطاعات كافة لتخطيط أبوظبي التي ستسع الأجيال المقبلة، فكان مثالاً لرئيس المجلس الناجح الذي استطاع خلال اجتماعاته وبما امتلكه من قدرات قيادية في إرساء النظم الأولى للتخطيط في الإمارة، وبناء قواعد صلبة من منظومة العمل الحكومي الناجحة.
نجاحات
في عام 1969، كان الفهيم عضواً في أول مجلس بلدي لإمارة أبوظبي والذي تم تشكيله بموجب المرسوم الأميري رقم 27 آنذاك، حيث تولى المجلس مهام الإشراف على الخدمات العامة والتخطيط العام للمدينة، وتصميم وبناء وصيانة الطرق وإنارتها وتنفيذ شبكات الصرف الصحي.
تتالت بعدها نجاحات عبدالجليل الفهيم، سواء في المساهمة المجتمعية الفعالة خلال تولي المسؤوليات الحكومية المختلفة أو من خلال النشاط التجاري الذي توسع، وهو الأمر الذي ترافق مع كمية المساعدات التي قدمها إلى المحتاجين في مختلف دول العالم، فكان مشرفاً على تجهيز العديد من حملات الإغاثة التي ساهم فيها بماله الخاص، كما بنى العديد من المرافق وشملت المدارس والمستشفيات والمنازل والمساكن في مختلف البقاع، كما كان كثيراً ما يرسل الوجبات الغذائية، إضافة إلى المساهمة في طباعة الكتب الدينية بعدة لغات وإيصالها للمستفيدين، وهو الأمر الذي جعله مستحقاً للأوسمة والتقدير من العديد من دول العالم.
تسامح وتعايش
أعمال الخير التي قام بها عبدالجليل بن محمد الفهيم، كانت انعكاساً لمفاهيم التسامح والتعايش التي ألفها في صغره وتنامت لديه خلال رفقة الوالد المؤسس، حيث كثيراً ما كان يرسخ لدى عائلته أيضاً أهمية المحافظة على أعمال الخير وتوسيع الأنشطة بها، عبر العمل على استدامتها ومواصلة الإشراف عليها، وهي الوصايا التي كان كثيراً ما يحث فيها من حوله، إدراكاً منه بأهمية العمل الخيري والإنساني وأثره على تنمية المجتمعات والشعوب.
جائزة أبوظبي
حصل عبدالجليل الفهيم على جائزة أبوظبي عام 2005، نظراً لحبه لفعل الخير ومساعدة الآخرين، حيث ساهم كرمه والنشاطات التي قام بها في دعم وتعزيز البنية الاقتصادية في أبوظبي، كما تم إعلانه ضمن المكرمين بجائزة رئيس الدولة التقديرية للمساهمين في بناء الاتحاد، نظراً لدوره ومساهمته وحياته التي بذلها لأجل دولة الإمارات.
لجنة البعثات
في أواخر الستينات، تولى الفهيم مهمة رئاسة لجنة البعثات المكلفة باستقدام المعلمين من المملكة الأردنية الشقيقة، حيث حرص على زيارة المدارس هناك ورؤية المناهج التعليمية وكيفية الاستفادة من التجربة لنقلها وتبادل الخبرات، كما كان يجلس مع المعلمين ليطمئن على شؤونهم وأحوالهم ويعرف عنهم أحدث طرق التعليم، كما كان يتواصل معهم حتى بعد وصولهم إلى الدولة للتعليم، وذلك بهدف أن يتأكد أن أمورهم تسير على ما يرام، انطلاقاً من شعوره بالمسؤولية المجتمعية وأن المواطن والمقيم جميعهم يتشاركون في وطن واحد، ولكل منهم دور في البناء والتنمية والتطوير.
وخلال عام 1968، تواصلت المهام التي تولاها الفهيم، حيث كان عضواً في لجنة الأراضي والتعويضات التي تألفت من مجموعة من الشخصيات، وهدفت إلى تسلم تنفيذ المشاريع الكبرى في الإمارة واختيار المواقع والأماكن، وتحديد أسعار المنازل والأملاك المتضررة من التخطيط وتعويض أصحابها، حيث قدمت اللجنة دوراً كبيراً في اقتراح المشروعات الكبرى والتوجيه بالتوصيات بشأن مقار المباني الحكومية والمساهمة في تخطيط المدن.
مسيرة تتواصل
انتقل عبدالجليل الفهيم إلى الرفيق الأعلى عام 1996، بعد مسيرة طويلة من النجاح الحكومي والتجاري والإنساني، هذه المسيرة التي لم تتوقف بفعل عائلته، حيث أطلق أولاده جائزة عبدالجليل بن محمد الفهيم للتفوق العلمي في عام 1997 إحياءً لذكرى والدهم والتي تمنح لأوائل طلبة الثانوية العامة، فساهمت الجائزة في دعم العديد من الطلبة المتفوقين والذين كان لهم الأثر في خدمة دولة الإمارات ومجتمعها بمختلف القطاعات.
كما تواصلت الإسهامات، من خلال وقف عبدالجليل الفهيم، والذي يقدم المساعدات للمحتاجين عبر مختلف الجمعيات والهيئات الخيرية بالدولة، حيث استفاد مئات الآلاف من الأشخاص من مختلف أنواع الهبات والمساعدات التي قدمها الوقف.