هدى إبراهيم الخميس*
أحدث الذكاء الاصطناعي ثورةً بكلِّ المقاييس، من التكنولوجيا إلى العلوم والاقتصاد والمعرفة والبيئة، وفي قلب كلِّ ذلك الثقافة والفنون، كمحرّكٍ ديناميكي يعيد تشكيلهما عالمياً وعربياً، ويغيّر أساليب التعبير الإبداعي والتفاعل الثقافي. كما أسهمت الأدوات التوليدية للذكاء الاصطناعي، مثل نماذج تحويل النصوص إلى صور (DALL-E) و(Stable Diffusion) والنماذج اللغوية المتقدمة، في تعزيز الإنتاجية والإبداع، وفي السياق العربي تمحور النقاش حول كيفية توظيف هذه التكنولوجيا للحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز اللغة العربية في العصر الرقمي.
أدركت الإمارات أنّ التحدي الأكبر هو لمن يمتلك القدرة والخبرة لتقييم واقتناء والاستثمار في البرمجيات والتقنيات الجديدة، بفعالية وجدوى أكبر، والقادر على نشر ثقافته وإبداعه واستئناف مسيرة الحضارة العربية والعالمية، فامتلكت الريادة في الذكاء الاصطناعي، لتقود سردية المستقبل، ولتحقّقَ التوازن بين الابتكار من جهة، واحترام القيم الثقافية والملكية الفكرية.
استثمرت الإمارات في نهضة المعلوماتية والتقنية، بالخوارزميات والأنظمة الذكية والبنية التحتية، وتفوّقت في سباق التنافسية عالمياً، لعصرٍ أكثر حيوية وابتكاراً. فمن إطلاقها واحة دبي للسيلكون، ومنظومة التكنولوجيا العالمية «Hub71» لتعزيز التكنولوجيا المبتكرة والصناعات القائمة على الذكاء الاصطناعي، كقيمة اقتصادية وأثرٍ تحويليٍّ مُضاعَف، إلى شراكاتها العالمية مع بلاك روك ومايكروسوفت والعديد غيرها، إضافةً إلى تأسيسها جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي كأول جامعة عالمية متخصصة، لتمكين جيل من الباحثين ورواد المستقبل، أصحاب الكفاءة والمهارات، بفكر ومعارف الذكاء الاصطناعي.
والتزمت الإمارات مسؤولية الحفاظ على الثقافة والابتكار، وتوثيق الإبداع العربي، وخدمة البحث المعرفي، فقدّمت مبادراتٍ عديدة ملهمة في مجال الذكاء الاصطناعي، وأمامنا مثالان متفرّدان: الأول هو نموذج «جيس» اللغوي للدردشة باللغة العربية والذي يستخدم 13 مليار مؤشر و395 مليار رمز، أما الثاني فهو المعجم التاريخي للغة العربية أول سجل تاريخي لألفاظ اللغة العربية، بعدد 127 مجلداً و14 مليون كلمة.
ومع التفكير في الذكاء الاصطناعي كأداة قوية لتحسين الإنتاجية وازدهار الاقتصاد، وتعزيز التفاعل الثقافي والإبداع وتطوير اللغة العربية، تبقى بيننا وبينه شعرةُ معاوية، فلا يحكمُ عقولنا ويلغي روحنا ويوجّهنا كيفما أراد، ولا نقف عقبةً في طريق استخدامه لتقدّم البشرية وحداثة حياتها وتطوّر مستقبلها.
فرغم ما يتيحه لنا الذكاء الاصطناعي من إمكانات الانتشار وتبادل الأفكار والإلهام بين الثقافات والمجتمعات والدول، تُثيرُ العلاقة بينه وبين الإبداع الفني والموسيقى تساؤلات عميقة حول طبيعة الإبداع والذات الإنسانية، فالموسيقى إحدى أسمى أدوات التعبير عن الوجدان والفكر، وهنا، أودُّ أن أشارككم تجربتَنا بتقديم عمل الفرقة الكورية للأداء المعاصر «الحركة والسكون» تحت قبة متحف اللوفر أبوظبي، من دون إيقاعات موسيقية سمع المئات صوت الصمت، تحرّكت أحاسيسُنا واتّسعت مخيّلتُنا، وتملّك قلوبنا الحلم في تلك اللحظة، لحظة الصمت، ما يجعلني أستعيد مقولة الفيلسوف جان بول سارتر: «الآلة قد تحاكي الصوت، لكن هل يمكنها أن تُنطِقَ الصمت!».
وانطلاقاً من قول الكاتب الفرنسي فرانسوا رابُليه «العلم بلا ضمير هو هلاك الروح»، واجبنا أن نذكّر العالم، بأنّ مَن ابتكر الذكاء الاصطناعي، أنشأهُ بروح الإنسان، روح المبدع التي هي الجسرُ بين الأرض والسماء، وهي الهدية الخالدة التي لا تُباع ولا تُشترى، لكنها تُهدى للعالم لتضيء مساراتنا كلها وفي مقدّمها الذكاء الاصطناعي.
واجبُنا أن نواكبَ جهود دولتنا لاستمرار الحضارة وريادة النهضة ومواكبة العصر، مدركينَ أنّ الذكاء الاصطناعي هو الوسيلة وخريطة الطريق، وأنّ الأرضَ أرضُنا، والثقافةَ حكايتنا، نسردها ونخطّها للأجيال القادمة مستخدمين كل الوسائل الميسرة التي ابتكرها الإنسان بروحه وضميره، وأولُها الذكاء الاصطناعي الذي تتبناه الإمارات اليوم بقيادةٍ وثقة، في جميع مجالات الحياة والثقافة، في وقتٍ لا يزال فيه العديد يتساءل حول فائدته وأهميته وتحدياته.
ختاماً، يليق بالإمارات بيت شعر المتنبي «أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها/ ويَسهرُ الخَلْقُ جَرّاها ويَختَصِمُ».
.................................................................
* مؤسس مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، المؤسس والمدير الفني لمهرجان أبوظبي