د. عزالدّين عناية
خلال العقود الأخيرة باتت كلمةُ «أزمة» المفردةَ الأكثر رواجاً في التعبير عن المشهد الإيطالي بمختلف تفرّعاته، وهو ما انعكس أثره على المجال الفنّي ومن ضمنه قطاع السينما. لذا تبدو السينما الإيطالية أقرب إلى التأثّر بهذا الجوّ القاتم، فهي تلوح متخمة بالاغتراب ويعوزها الأمل، وبالمثل مفعمة بالانقباض ويغمرها الضجر، حتى بات هذا الانطباع الأكثرَ شيوعا والأكثر عدوى بين الناس. ولكن لو تأمّلنا مسار السينما الإيطالية بعين فاحصة، نلحظ أنها سينما ناضجة، وهي أيضاً مدجَّجة بالقدرات والإمكانات، وإن خانت متفرّجيها، في كثير من الأحيان، واصطنعت الفِصام بينه وبينها، ولعلّ ذلك ما يوحي أو يُخيَّل أنّها تعيش في أزمة، حتى وإن تكثّفت منذ تسعينيات القرن الفائت الإنجازات على المستوى الكمّي والنوعي، وشهدت ظاهرة سينما المؤلّف، ذات الطابع الثقافي، تطوّراً ملحوظاً في محاولة لمناهضة هجمة السينما الاستهلاكية العارمة.
ففي قول نبيه لخّص المخرج الفرنسي جان لوك غودار، الذي رحل عن دنيانا سنة 2022، خاصيات المدارس السينمائية الكبرى قائلاً: «قدّمَ الروس سينما الشهداء، وبالمقابل قدّم الأميركان سينما الدعاية، أما الإنجليز فقد ظلّوا يفعلون في السينما ما يفعلونه دوماً، ألا وهو اللاشيء. ولو تأمّلنا منجزات الألمان ندرك أنهم لا يملكون سينما (...)، في حين اكتسبت إيطاليا منذ فيلم «روما مدينة مفتوحة» لروبارتو روسلليني [1945] حقّ الشعب في النظر إلى الأشياء برويّة، ومن ثَمّ جاءت الحصيلة الكبرى لهذه السينما، بدمج لغات أوفيديو وفرجيليو ودانتي وليوباردي عبر الصورة».
صحيح ما عاد الإيطالي في الزمن الراهن يرتاد السينما على النحو الذي دأب عليه سابقاً، وذلك لأنّ العروض أضحت تأتي إليه وتتزاحم على محلّ سكناه. وصحيح أيضاً أنّ سينما الجدران والهياكل المغلَقة قد باتت تعيش ركوداً، ولكن السينما المسايِرة لنسق الحياة المتحرّكة تشهد تطوّراً وتبدلاً ملحوظين. ويمكن القول إننا نعيش زمن التحرّر في استهلاك المنتوج السينمائي والتحرّر في صناعة الفرجة، ما عادت السينما مرتبطة بأطر معيّنة، وما عادت حكراً على أسماء ونجوم، بل حتى البسطاء بات في وسعهم صنع أفلامهم ورواية قصصهم. أعرف صديقاً معوزاً من سكان مدينة روما، لا يجد أحياناً ما يسدّ به الرمق، ولكنّه يشتغل في صناعة السينما الذاتية، لا يملك سوى هاتفه النقال وخبرته وثقافته في المجال. لقد حرّرت التكنولوجيا هذا الفنّ من «المونوبول» وأدخلت تقاليد جديدة في القطاع ما كانت في الحسبان. وفي خضمّ هذه التحولات والمستجدات ها هي السينما الإيطالية تبدع في التواصل مع المتفرّج، إذ مع حلول فصل الصيف، ومع تقلّص روّاد دُور السينما تحت وطأة إغراءات البحر، والاستجمام، والترحال، والنفور من الانغلاق بين الجدران، تطلّ موجة سينما المنتزهات والحدائق والساحات ليلاً، وهي فرصة ذكية وممتعة للذين ينفرون من الفرجة بين الجدران.
توهج خارق
الملاحظ أن منتجات السينما الإيطالية كثيرة ووفيرة، وفي تلك الرحلة الشيّقة أُنجزت أعمال راقية غدت علامات، تعبّر عن أطوار وأشواط قطعها الإبداع السينمائي، وهي منجزات لم تتميّز فحسب بلغتها وبهائها وسحرها، بل بتوهّجها الخارق أيضاً. طبعت تلك المنتَجات السينما الفاشية، وموجة الواقعية الجديدة، وسينما المؤلف، والكوميديا الإيطالية، وسينما الأزمة، ولكن عبر هذا المشوار الطويل والثريّ اضطلع النقد السينمائي بدور محوري، تأتّى ذلك جرّاء ترافق تلك المراحل المتنوعة مع بروز أقلام أدبية وازنة استطاعت بإشاراتها وتلميحاتها، وبانتقاداتها الذكية أيضاً، الإسهام في خلق سينما مبدعة ومغرية.
ومن ثَمّ فإنّ السؤال المطروح في الزمن الحالي: هل ما زالت السينما تغري الناس وتستهويهم بالشكل الذي كانت عليه؟ الملاحظ أن الفرجة عموماً ما فتئت تغوي الناس، ولكن المواضيع المعالَجة غالباً ما لا تعبّر عن انتظارات المتابِعين وهمومهم. فالفرجة غدت مغتربة عن واقعها، وتُمعن في استلاب الإنسان. مع هذا فإنّ الإيطالي في زمن الشبكة العنكبوتية ما انفك تحت غواية الفرجة وإن تغيرت زوايا النظر ونوافذ الاطلاع: الهاتف النقال، الأفلام السائبة في الشبكة، نتفليكس، الأفلام المخزّنة في الوسائط المتنوعة، لتغدو السينما رفيقة حلّه وترحاله، وتخرُج من الثبات الذي لازمها طيلة عقود.
في بداية عهدي بإيطاليا ساقتني مقتضيات العيش أن أشتغل مترجماً في مجمّع سينمائي هائل يجاور«قناة الراي» الحكومية. لا تتعدّى مهمّتي في ذلك المركّب القيام بترجمة الأشرطة الكتابية التوضيحية المصاحبة للأفلام والبرامج التلفزيونية، من الطبخ إلى الفن إلى السينما إلى مختلف البرامج والحوارات. لكن عمل الترجمة ذاك أدناني من عالم آخر كنت أجهله، فقد أتيت من حقل دراسة الظواهر الدينية، واللاهوت، وحوارات الأديان، لأجد نفسي في صالة مونتاج ومحاطاً بأجواء سينمائية وفنية وأحاديث ومشاغل لم آلفها في سابق عهدي. دامت تلك الرحلة سنوات، تعلّمت خلالها أن العالم عوالم، فيه لغات عدّة وزوايا نظر شتّى. انغمست حينها، وبحكم تكويني، في متابعة الأفلام الدينية، أو لأقُل الأفلام ذات الخلفية الكنَسيّة تحديداً، لأكتشف أن صناعة سينمائية هائلة في إيطاليا، وليس في حاضرة الفاتيكان وحدها، تدور حول حقل اللاهوت، تكاد تكون معظم ثيماتها مستوحاة من العهدين: القديم والجديد، وتتمدّدُ لتغطّي ظواهر دينية حديثة: بابوات، وقديسين، وقديسات، وحركات. وهي سينما تجلب حتى مخرجي اليسار (على سبيل المثال فيلم «الإنجيل برواية متّى» لبيار باولو بازوليني، وفيلم المخرج ناني موريتي «انتهى القدّاس»، وكذلك فيلمه الثاني «هابيموس بابام/ أصبح لدينا بابا»)، والقائمة طويلة، تراهم مهووسين بحقل السينما الدينية وقضاياها في إيطاليا.
استحضار التاريخ
الواقع أن السينما الإيطالية قد رافقت هموم الناس، حتى وإن اغتربت أحياناً وضلّت طريقها. فقد كانت شديدة الحرص على استحضار التاريخ والواقع، وتحاول أن تتملّى فيهما بلغة فنية معبّرة، ودون أن تثقل حمولتها بالروايات الخارجية، وإنما يجري التوظيف بإشارات ذكية وحالمة. وفي تلك المغامرة ارتبط مسار هذه السينما في المخيال الجمعي بالمتوسِّط، تلك البحيرة التي تتربّع شعوب وأقوام حولها، تقاسمت تاريخاً عريقاً وحاضراً مثقلاً بالتحديات. وكأنّ الهجانة الأنثروبولوجية التي تحدّث عنها المؤرخ فرنان بروديل قدرُ المطلّين على المتوسّط. ربما يشكّل فيلم«كابيريا» (1914) لجيوفاني باستروني أحد أعمدة التأسيس المبكرة في رحلة هذا الفنّ الجميل، إذ يصوّر الفيلم الصراع التاريخي الملحمي بين قرطاج وروما. صحيح سادت روما مع منتهى الحروب البونيقية الثلاث وأحرقت قرطاج وأعلنت «دالندا كرتاجيني» (لِتُدمّر قرطاج). ولكن روما لم تقرّ لخصمٍ لها بالإجلال والرهبة مثلما أقرّت بذلك لحنّبعل ابن أميلكار (248-182 ق.م)، ليس لفطنة الرجل السياسية وعبقريته العسكرية فحسب، وإنما لخطورة طرحه الجيوسياسي حينها، الذي يعيد رسم خريطة العلاقات بين الحضارات المطلّة على المتوسّط، بعيداً عن الصراعات التي حوّلت تلك البحيرة إلى مقبرة مترامية الأطراف. وهنا يتنزّل قَسَم حنّبعل:«أُقسم أن أناصِبَ روما العداء إلى الأبد».
وانخرطت تلك السينما في قضايا إنسانية لاحقاً، كان أبرزها حين غامر المخرج جيللو بونتيكورفو بإنجاز فيلم «معركة الجزائر» (1966)، كان الرجل يعلن من خلال عمله انحيازاً واضحاً إلى روح جديدة تسري في العالم، تجلّ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وتعلن التخلّص من ماض استعماري بغيض. فالفنّ عادة ما يستبق الأحداث ويعلن إرهاصات التحولات الكبرى، حتى وإن بدت السينما «ماكينة أحلام وخزّان كوابيس»، على حدّ قول الناقد السينمائي ستيفانو سانتولي.