في حياة كل منا قصصٌ خاصة وأخرى عامةٌ نلاحظ أنها تتشبث بنا وتظل في مجال تذكرنا الدائم، ويقابلها قصص لا نتذكرها إلا إذا تم استدعاؤها لسبب خارج عنا، وإذا تذكرناها أدركنا أننا كنا قد نسيناها، بينما الأولى لا تسمح لنا بنسيانها لأنها هي التي تتذكرنا وتظل تعاودنا حتى من دون سبب نعيه أو يلزمنا باستحضارها، فهي فقط تحضر حسب توقيتها هي وليس توقيتنا، وبمواعيد تختارها ولا نختارها، وكلما نسيناها جاءت لتذكرنا بنفسها.
والسؤال كيف يحدث هذا ولماذا يحدث، وما سبب إصرارها علينا …!!.
هنا يحضر البرهان القلبي وليس العقلي (أي ليس السببي والمنطقي)، وللقلب براهينه ومواعيده، وهي براهين تشير إلى أن القلب يفكر كما هو تعبير باسكال، ولكن تفكير القلب يأتي عبر تلك القصص التي لها صفة التشبث والمعاودة، وهي تكشف عن طريقة القلب في التواصل معنا عبر رسائل شبه مشفرة وعلينا فك شفراتها، وكلما تأملنا بهذا النوع من القصص التي هي من تختار المعاودة فهذا يعني أنها تحمل شفراتها الخاصة وقد اعتمدت لها مصطلح (الاستدلال العقلي الوجداني) وفصلته في كتابي (القلب المؤمن) وأردفته بعنوان ملاصق هو: وهل يلحد القلب..!؟.
والاستدلال العقلي الوجداني يجري حين يستسلم العقل للقلب ويجري خلف معطيات الوجدان (القلب) ثم يشرع العقل تبعاً لذلك في عقلنة مستلزمات الوجدان، ومن ثم نظن نحن أننا أمام برهانٍ سيده العقل، بينما العقل في هذه الحال هو مجرد خادم مطيع لتوجيهات القلب وربما يكون هذا ما أراده هيجل بمقولة العقل المطلق (الروح المطلقة)، حيث يتماهى العقل مع الروح ليكونا شيئاً واحداً، وهناك يكون الإيمان والمحبة حسب هيجل، أوالحجج القلبية حسب باسكال، أو الاستدلال العقلي الوجداني حسب تفضيلاتي.
وتظل قصصنا الخاصة التي تظل تختارنا لحدوثها ثم تختارنا لتذكرنا بأنها حدثت لنا وتأبى أن تغادرنا ولها جغرافية زمانية ممتدة بعضها منذ طفولتنا وبعضها متأخر، ولكنها تدور حول معانٍ هي بالتالي خلاصات معانينا التي صبغت أعمارنا واحتلت مكانها الخاص في ذواكرنا، وكلما غفلنا عنها فاجأتنا بالحضور، خاصةً في أوقات خلوتنا أو أوقات تعطشنا لمعنى يرفعنا من انكسار ينتابنا، فتجبر كسرنا وترفع من روحنا وتغير حزننا لأمل، ومحنتنا لمنحة، وعجزنا لصبرٍ ومتانةِ خاطر، ونعود منها وكأنما قد تبللت أرواحنا بماءٍ نوراني وبإيمانٍ روحاني عميق ومتأصل. ولعل هذا ما وجده أبو حامد الغزالي فكتب عنه كتابه (المنقذ من الضلال)، وجرى وراءه سقراط حيث بحث عن نفسه وحكمته، فلم يجدها، فاكتشف أن الحكمة التامة عند الله وحده، ووصف نفسه بأنه ليس حكيماً وليس عالماً، وعبر إدراكه لعجزه ونقصه، اتجه للبحث عن الحكمة العليا، واختار أن يموت من أجلها، فيتعالى على شروط الواقع الذي لم يستوعب مقولاته. (للتفصيل كتابي القلب المؤمن).
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض