الفاهم محمد
في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، تجد دولة الإمارات العربية المتحدة نفسها على مشارف عصر جديد، عصر ينفتح فيه أفق استكشاف الفضاء على مصراعيه، من أجل تأسيس فهم إنساني جديد للكون والوجود. يتعلق الأمر برؤية طموحة تتجاوز مجرد المنافسة التقنية، أو الحضور على خريطة الفضاء العالمي. بل هي دعوة لتأمل أعمق في ماهية الوجود والكينونة الإنسانية، وسبر أغوار العالم الذي نعيش فيه، بكل ما يتضمنه من غموض ووعود. فمن خلال برامجها الفضائية الطموحة، تسعى الإمارات إلى إلهام الأجيال القادمة، وتحفيزهم على استشراف آفاق المستقبل، بروح المغامرة والاكتشاف.
إنها رحلة قد تؤدي بنا إلى تحولات جذرية في فهمنا للكون والحياة، وربما إلى إعادة تعريف ذواتنا كبشر في هذا الفضاء الشاسع.
بفضل برنامج الإمارات الفضائي الطموح، أصبح هذا القطر العربي الخليجي، في طليعة الدول المشاركة في استكشاف الفضاء. فقد أطلقت بداية القمر الصناعي «خليفة سات» في عام 2018، ليكون أول قمر إماراتي في الفضاء. هذا القمر المتطور مزود بأحدث التقنيات لرصد البيئة والمناخ على الأرض، وجمع البيانات العلمية القيّمة، عن الغلاف الجوي والمناخ العالمي.
هناك أيضاً مسبار الأمل Hope Probe الذي تم إطلاقه في 19 يوليو 2020 من قاعدة تانيغاشيما الفضائية في اليابان باستخدام صاروخ H-IIA. وبعد رحلة استغرقت سبعة أشهر، وصل هذا المسبار إلى المدار المداري للمريخ في فبراير 2021. ومنذ ذلك الحين، وهو ما فتئ ينجح، في إرسال كميات هائلة من البيانات العلمية القيّمة إلى العلماء على الأرض.
إن الهدف الرئيس لمسبار الأمل، هو دراسة الغلاف الجوي للمريخ، وتحليل تكوينه الجيولوجي والمناخي. كما يهدف أيضاً إلى تعزيز فهمنا لتطور الكواكب في المنظومة الشمسية، ودراسة إمكانية استيطان البشر على المريخ في المستقبل.
ويجب ألا ننسى أن هذه الإنجازات، كانت نتيجة مجهودات قاعدية، على مستوى المعاهد والمؤسسات التعليمية. وفي هذا السياق يمكن الحديث عن مركز محمد بن راشد للفضاء، وهو مركز بحثي يعمل على تطوير التقنيات الفضائية، وتدريب الكوادر الوطنية في هذا المجال. تم إنشاؤه عام 2014 في دبي، وهو يُعد الجهة الرئيسة المسؤولة عن برنامج الفضاء الوطني الإماراتي، وتطوير قدرات الإمارات في مجال استكشاف الفضاء. يضم المركز أربعة أقسام رئيسة: برنامج رواد الفضاء، الأقمار الصناعية، البحوث والتطوير، والتعليم والتدريب.
- برنامج رواد الفضاء: يتولى اختيار وتدريب رواد الفضاء الإماراتيين للمهام الفضائية، كما يشرف على إرسالهم إلى محطة الفضاء الدولية.
- قسم الأقمار الصناعية: يقوم بتصميم وتطوير الأقمار الصناعية الإماراتية، لأغراض مختلفة مثل الاتصالات والمراقبة البيئية.
- قسم البحوث والتطوير: يجري أبحاثاً علمية متقدمة في مجالات الفضاء والطيران، ويطور تقنيات جديدة.
- قسم التعليم والتدريب: يُنظم برامج تعليمية وتدريبية، في مجالات الفضاء والطيران لطلاب الجامعات والمدارس.
هكذا يعمل المركز على تطوير البنية التحتية، والقدرات البشرية اللازمة، لتحقيق أهداف برنامج الفضاء الوطني الإماراتي. وبالتالي فهو يُعد نموذجاً للتميز في مجال الفضاء على المستويين الإقليمي والدولي.
رواد فضاء
من المكونات الأساسية كذلك لبرنامج الفضاء الإماراتي، برنامج إعداد رائد الفضاء الإماراتي، فقد أطلقت دولة الإمارات في عام 2019 برنامجاً لتدريب ورعاية رواد الفضاء الإماراتيين، وكان الهدف هو إرسال أول رائد فضاء إماراتي إلى محطة الفضاء الدولية بحلول عام 2023. هذا البرنامج سيساهم في بناء قدرات الإمارات، في مجال استكشاف الفضاء بوساطة البشر. لقد تحقق هذا الهدف بالفعل مع هزاع المنصوري، وهو أول رائد فضاء إماراتي، تم إرساله إلى محطة الفضاء الدولية.
تم إطلاق مهمة هزاع المنصوري في 25 سبتمبر 2019، حيث انضم إلى طاقم الرحلة الفضائية، على متن المحطة الفضائية الدولية. خلال مهمته التي استمرت 8 أيام، قام هزاع بإجراء تجارب علمية وبحوث، في مجالات مثل علم الأحياء والفيزياء. كما قام بمشاركة تجربته مع الطلبة في الإمارات، عبر بث مباشر من المحطة الفضائية، لإلهامهم وتحفيزهم على التعلم في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
شكل وجود هزاع المنصوري في الفضاء لمدة أسبوع ونصف أسبوع، إنجازاً كبيراً للإمارات، حيث إنه أول رائد فضاء عربي يصل إلى محطة الفضاء الدولية. مثلت هذه المهمة بداية برنامج رواد الفضاء الإماراتيين، والذي يهدف إلى تطوير قدرات الإمارات، في استكشاف الفضاء، والمساهمة في تقدم العلوم الفضائية، وتؤكد طموحها في تنمية قدراتها البشرية والتقنية في مجال هذا المجال.
وبعد النجاح الذي حققه هزاع المنصوري في مهمته إلى محطة الفضاء الدولية، قامت دولة الإمارات العربية المتحدة، بتطوير برنامج رواد الفضاء الوطني، وتدريب رواد فضاء إماراتيين آخرين نذكر منهم:
- سلطان النيادي: الذي تم اختياره ليكون الرائد الفضائي الثاني من الإمارات، وقد خضع النيادي لتدريبات صارمة في الولايات المتحدة وروسيا، لإعداده للمهام الفضائية. كما تم إرساله إلى محطة الفضاء الدولية في سبتمبر 2021 لمدة 6 أشهر قام خلالها بإجراء تجارب علمية وبحوث في مجالات مختلفة.
- نورة المطيوعي: تم اختيار نورة المطيوعي لتكون أول رائدة فضاء إماراتية. خضعت المطيوعي لتدريبات مكثفة في الولايات المتحدة وروسيا، وتم إرسالها بدورها إلى محطة الفضاء الدولية في سبتمبر 2023 لمدة 6 أشهر. تعد نورة المطيوعي أول امرأة عربية ترسل إلى محطة الفضاء الدولية.
إن كل هذه المبادرات، تؤكد التزام الإمارات بتطوير برنامج فضائي وطني قوي، وإعداد جيل جديد من رواد الفضاء الإماراتيين المؤهلين، لمواصلة الاستكشاف والبحث العلمي في الفضاء.
مشاريع استراتيجية
بعد نجاح مسبار الأمل في استكشاف المريخ، تخطط دولة الإمارات لإطلاق مسبار استكشافي آخر إلى كوكب المشتري. المسبار سيهدف إلى دراسة تركيب الغلاف الجوي للمشتري، وديناميكيات الرياح العاتية، والعواصف الهائلة على سطح هذا الكوكب العملاق. ومن المشاريع الاستراتيجية كذلك مشروع مدينة المريخ التجريبية. وهي مدينة تخطط الإمارات لبنائها على الأرض، بحيث تماثل ظروف المريخ لاختبار وتطوير التقنيات والبنية التحتية اللازمة، لاستيطان البشر على سطح هذا الكوكب في المستقبل. ومن المخطط كذلك إطلاق أقمار صناعية إماراتية جديدة متطورة، تعزز قدرات الدولة في مجالات الاتصالات والمراقبة الأرضية، والتنبؤ الجوي والبيانات الفضائية.
وأخيراً يبقى المشروع الاستراتيجي الأكبر، وهو التطلع إلى إنشاء محطة فضائية إماراتية خاصة، في المستقبل القريب، تكون بمثابة مركز بحث وتطوير وتجريب في الفضاء.
وعموماً سيواصل البرنامج الفضائي الإماراتي، توسيع نطاق شراكاته مع وكالات الفضاء الرائدة عالمياً، من أجل تعزيز قدراته التقنية والعلمية، واكتساب الخبرات المتقدمة في هذا المجال.
بهذه الخطوات المستقبلية، سيتمكن برنامج الفضاء الإماراتي، من المضي قدماً في تحقيق طموحات الدولة، واستكشاف آفاق جديدة للعلوم الفضائية، مساهماً بذلك في تعزيز مكانة الإمارات قوة علمية رائدة على المستويين الإقليمي والعالمي.
ختاماً نجد أن البرنامج الفضائي الوطني الإماراتي، يمثل تحقيقاً لطموحات الإمارات وتطلعاتها نحو مستقبل أكثر إشراقاً. فمن خلال هذه الإنجازات، تبرهن دولة الإمارات على قدرتها، على الابتكار والتميز رغم حداثة تجربتها، كوافدة جديدة في هذا المجال. وتؤكد أن الحلم الإنساني بالوصول إلى النجوم والكواكب، لم يعد حكراً على القوى العظمى، بل أصبح متاحاً لدول تمتلك الإرادة والإمكانات لتحقيق هذه الآمال.