بقلم: أ.د لعبيدي بوعبدالله *
إن اللافت للانتباه في كتب قواعد اللغة العربية - المختصرة والمطوّلة - كثرة اختلاف النحاة في توجيه المسائل، وتخريج القواعد التي تضبط قواعد الكلام، لتقريب الفهم، وتقويم اللسان.
وإن الدافع الذي أدّى إلى ذلك هو تنوع الأصول التي استندوا إليها في الاستنباط، وهو تنوع يثري التفكير النحوي، فهذا يعتمد السماع، وذاك القياس، وهو المسلك نفسه الذي استنبط به الفقهاء الأحكام، حين لجؤوا إلى النقل أو القياس أو غير ذلك لتخريج مسألة أو توجيه نصّ.
وقد أرّخ لتلك الخلافات النحوية ابن الأنباري، فجمعها في كتابه الشهير «الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيّين»، فعرض حججهم وتعليلاتهم لما وصفوه من الظواهر النحوية، واستنتجوه من قواعد.
وهو وإن كان - في أغلب مواقفه من المسائل والأحكام النحوية بصريّاً - إلا أنه نجح -برأيي- في أمرين:
أولهما أنه أبرز أهمية الاختلاف بوصفه أداة منهجية وحاجة معرفية، وليس ترفاً فكرياً يلجأ إليه النحاة من أجل استعراض فهومهم في مسائل اللغة. وثانيهما أنه بيّن أن سماحة النحاة أسهمت بأمانة فائقة في حفظ وتوثيق الإنتاج الفكري الذي أفرزته العقلية النحوية الكوفية، رغم اكتساح التفكير البصري أغلب مصادر النحو والصرف واللغة، وهو تأريخ يشي بالرّقي المنهجي والتسامح الفكري الذي حفظ جهود العلماء وزكّاها، وعرضها في شكل وضعيّة تواصلية حضارية.
وبهذا تحقّقت للفكر حاجته في تنوع الرؤى والمواقف والأحكام، وامتلاكه مرونة جعلت من مفاهيم النحو وسيلة طيّعة في منظومة النحو وتفكير النحاة، لدرجة تنافسهم في تسمية المفاهيم، فسمّوا: النعت والجر والمفعول الذي لم يسم فاعله، وسمى آخرون: الصفة، والخفض، ونائب الفاعل. 
إن هذا الخلاف النحوي الذي يتذرّع به بعضهم على استغلاق أبواب النحو العربي ومباحثه، وإن كان في ظاهره الصعوبة المزعومة، فإن في باطنه السماحة العلمية، والمرونة المنهجية، والرحمة الفكرية، التي تحفظ لجميع الأطراف حقها في التفكير والاستنباط والتأويل، لأن نتاج ذلك التفكير هو ميراث لمنظومة المعرفة اللسانية، وحق محفوظ للإنسانية جمعاء.
* أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية