إيهاب الملاح

أتيح لي على مدى سنوات طويلة متابعة النشاط الأكاديمي والمعرفي والثقافي العام بين مصر والعالم العربي عموماً وإسبانيا والبرتغال، أو ما يعرف جغرافياً بـ «شبه جزيرة إيبيريا»، وتعرف في تاريخ التراث العربي والإسلامي بـ «الأندلس» التي استقر بها العرب والمسلمون لما يزيد على ثمانية قرون، أنشؤوا خلالها حضارة إنسانية زاهرة وراقية، كانت مثالاً حياً على ما يطلق عليه الآن في الأدبيات المعاصرة بـ «تعايش الحضارات» و«تلاقح الثقافات» أو تحاورها.
حينما أعلن عن رحيل عميد المستعربين الإسبان المعاصرين بدرو مارتينيث مونتابث (1933-2023) آخر سلالة الجيل الذهبي في حركة الاستشراق أو الاستعراب الإسباني، أثار رحيله ذكرياتٍ وخواطر عديدة عن تلك العلاقات الإنسانية والحضارية والثقافية العربية الإسبانية، وهي علاقات قديمة جدّاً وممتدة، وما زالت تحظى حتى وقتنا هذا بروابط قوية وتبادل علمي وأكاديمي رفيع المستوى.
تاريخيّاً، تتميز العلاقات الثقافية العربية الإسبانية بأواصر ترجع إلى أبعد من الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، ويزيد من قوة هذه الروابط والأواصر تداخل البعد المتوسطي الجغرافي، بالبعدين التاريخي والحضاري، ولعل من أبرز الشواهد الدالة على عمق هذه العلاقات وتاريخيتها وجود مؤسسة كبيرة بحجم وثقل المركز الثقافي الإسباني أو معهد «ثرباتس» العريق لتعليم اللغة الإسبانية ونشر الثقافة الإسبانية، والذي يعد واحداً من أقدم وأهم المراكز الثقافية المعروفة في مصر، وفي المقابل تحظى العاصمة الإسبانية بوجود معهد عريق لتعليم اللغة العربية والثقافة العربية للناطقين بالإسبانية، وهو «المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد» والذي أنشأه الدكتور طه حسين في خمسينيات القرن الماضي.
وبغض النظر عن تراجع أو انحسار هذه الأدوار قليلاً، وتقلص هذا النشاط العارم الكبير الذي شهدته هذه العلاقات في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، قليلاً أو كثيراً أيضاً، فإنه يبقى في النهاية أن ثمة إرثاً عظيماً وتاريخياً يؤكد ويرسخ هذه العلاقات، ويمنح أملاً في مستقبلٍ قريب أو على المدى البعيد في توطيد هذه الأواصر وتقوية هذه العلاقات، والدفع بها إلى آفاق أرحب وأبعد وأوسع.
أذكر جيداً خلال الفترة (1997-2001) التي درست فيها على يدي العلّامة المرحوم الدكتور محمود علي مكي وقرأت له أعماله العلمية المبهرة، كان دائماً ما يردِّد بإكبار واحترام ثلاثة أسماء في مجال الاستعراب الإسباني المعاصر، وهؤلاء الثلاثة، هم: إميليو غرسيه غومِس، وفيدريكو كورّينتي، وثالثهم وآخرهم بدرو مارتينيث مونتابث، والذي خصه بمقال كامل نشره في مجلة (الهلال) القاهرية عن كتابه العمدة (الأدب العربي المعاصر) عام 1992.
وبفضل أستاذي الراحل عرفت اسم بدرو مارتينيث مونتابث، وتتبعت نشاطه وأعماله (ترجماته لعيون الأدب العربي المعاصر ومؤلفاته ودراساته حول الأدب العربي وأعلامه) وهالني وأدهشني ما قدمه هذا الرجل من خدمات علمية ومعرفية وأدبية لأبناء الثقافتين العربية والإسبانية. 
كان العلامة الدكتور محمود علي مكي يرى أن «إميليو غرسيه غومِس» هو الذي يرجع له الفضل في الترجمات الرائعة التي قام بها للشعر الأندلسي (ترجم عيون الشعر الأندلسي إلى الإسبانية)، ولكتاب «طوق الحمامة» لابن حزم، ولنماذج من الأدب العربي الحديث، منها على سبيل المثال، كتاب «الأيام» لطه حسين، و«يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم.
وعلى يدي غرسيه غومس تخرج عشرات من التلاميذ الإسبان والعرب، وكان من بينهم من واصلوا عمله في الدراسات الأندلسية، وهم يملؤون الآن جامعات إسبانيا المختلفة، ومنهم من تخصص في الأدب العربي الحديث، مثل بدرو مارتينيث مونتابث الذي تحلقت حوله مدرسة كبيرة تعمل على ترجمة الأدب العربي الحديث والمعاصر، شعراً ومسرحاً وفناً قصصياً.
واعتبر المرحوم مكي نشاط مونتابث نموذجاً لمرحلة مهمة اجتازها الاستشراق الإسباني، واعتبرها أخصب مراحل حياته.
لكن من المهم، وقبل الوقوف على جهود بدرو مونتابث في نقل عيون وروائع الأدب العربي المعاصر إلى الإسبانية، وتأسيس تيار الاستعراب الإسباني للأدب العربي المعاصر، ضرورة إلقاء بعض الأضواء على جهود وأعمال أستاذه إيميليو غرسيه غومس.. والإشارة إلى بعض ما قدمه من خدماتٍ جليلة للأدب العربي، والثقافة العربية، وذلك في سياق نشأة العلاقات الأكاديمية العربية الإسبانية في النصف الأول من القرن العشرين.
بدأت الصلات الثقافية مبكراً بين المجال الجامعي والأكاديمي المصري والعربي، وبين نظيره الإسباني في النصف الأول من القرن العشرين، ومن يتتبع تاريخ نشأة الدراسات الأندلسية في الجامعات العربية، سيكتشف على الفور عظمة الدور الريادي والتأسيسي للعميد طه حسين الذي وجه قسطاً وافراً من مجهوده العظيم في ترسيخ وتأصيل هذه الدراسة بأقسام اللغات والآداب بالجامعة المصرية.
لم يكتف طه حسين بهذا، بل تجاوز حدود الجامعة ميمماً شطره تجاه أقصى الغرب الأوروبي، شبه جزيرة أيبيريا بالتحديد، مقتحماً جريئاً وعاقداً أواصر علاقات ثقافية مثمرة وغير مسبوقة، وإنشاء جسور معرفية عظيمة بين مصر والعالم العربي وبين إسبانيا، بدأت بمبادرة وفكرة في ثلاثينيات القرن الماضي لإنشاء معهد للدراسات العربية في مدريد، وتكللت هذه الجهود بنجاح في العام 1950 بتوقيع اتفاقية إنشاء وتأسيس المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد. وكان من ثمار هذا التعاون الرائع حركة ثقافية كبرى وازدهار عظيم في الدراسات المقارنة والبينية والدراسات الأندلسية القديمة منها والحديثة على السواء، وبدأت حركة ترجمة نشطة كأثر مباشر من آثار هذا الاتصال العظيم من وإلى اللغتين معاً (العربية والإسبانية).
وخلال الخمسينيات من القرن الماضي تُرجم العديد من نصوص أدبنا العربي الحديث إلى الإسبانية مصدرةً بدراسات نقدية وتحليلية وافرة العمق والذكاء والرصانة، عكف عليها كبار المستشرقين الإسبان، وأعلام هذه الحركة في الدراسات الأندلسية والمغربية والمشرقية على السواء، وكان على رأس هؤلاء المستشرق الكبير «إيميليو غرسيه غومِس».
حظي نصان مهمان تأسيسيان هما «الأيام» لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (صدرت في كتاب للمرة الأولى عام 1927)، و«يوميات نائب في الأرياف» لعميد المسرح العربي توفيق الحكيم (صدرت للمرة الأولى عام 1934)، بعناية واهتمام المستشرق الإسباني الكبير إيميليو غرسيه غومِس الذي اضطلع بترجمة العملين الكبيرين إلى الإسبانية، وصدَّر ترجمته لكل منهما بمقدمة هي في صميمها قراءة تحليلية نفيسة تثير الكثير من الإعجاب والدهشة.
وترجم غومس نص طه حسين «الأيام» (الجزء الأول) أولاً، ثم أعقبه بترجمة رواية «يوميات نائب في الأرياف» ثانياً، وقد نشرت مقدمة غومس للترجمتين في صحيفة (المعهد المصري للدراسات الإسلامية) في مدريد في خمسينيات القرن الماضي، ويقول المرحوم الدكتور محمود علي مكي الذي اضطلع بترجمة مقدمة غومس إلى العربية:
«هذه هي المقدمة التي صدَّر بها الأستاذ غرسيه غومس للترجمة الإسبانية لكتاب «يوميات نائب في الأرياف» للأستاذ توفيق الحكيم، وقد تولى نشر تلك الترجمة المعهد الإسباني العربي في مدريد (سنة 1956). أما هذه المقدمة، فقد تفضل الأستاذ غرسيه غومس فأذن لنا في نقلها إلى العربية، ونشرها في هذه الصحيفة».
فيما قام المرحوم الدكتور حسين مؤنس أستاذ التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى، وصاحب المؤلفات الموسوعية والتحقيقات التراثية الأصيلة، بترجمة مقدمة غرسيه غومس لنص «الأيام» لطه حسين، ونشرت بدورها على صفحات المجلة ذاتها (المجلد الثاني، العددان الأول والثاني، سنة 1954 ص 240-252). وبهذا توفر لنا - نحن قراء العربية - وثيقتان مهمتان غاية في الأهمية والقيمة تحملان رؤية إسبانية عميقة لنماذج من أدبنا العربي الحديث، وخاصة في بواكيره التأسيسية، يقدم لنا فيها غومس نظرة تحليلية تأملية للأدب المصري في العموم، ومقارناً إياه بنظيره الإسباني في الفترة ذاتها، من حيث الخصائص والسمات والمشتركات والتباينات... إلخ.
وسيلفت انتباه قراء هاتين المقدمتين للترجمة تلك المقارنة اللافتة التي سيعقدها غومس بين نصي طه حسين وتوفيق الحكيم، وبين بعض جيل الكتّاب الإسباني الذي شُهر بجيل (سنة 1898).
وعلى مدار قراءته وتحليله للنصين سيتردد اسم خوسيه مارتينث رويث (José Martinez Ruiz Azorin) المعروف بـ «أثورین» الذي ولد في سنة 1885، وهو يعتبر من أبرز ممثلي جيل سنة 1898، وهو كاتب ثائر خصب الإنتاج له ما يقرب من مائة كتاب من أشهرها كتاب «الشعوب»، وأهم ما يميز نثره غناه اللفظي وإحكام صناعته وإشراق أسلوبه، وهو من أهم من تعرضوا لوصف الحياة في الريف الإسباني، وهو إلى جانب آثاره الفنية ناقد أدبي من الطراز الأول، مقارناً بينه وبين نص «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم.
فيما سنجابه كذلك، وعلى سبيل المثال، اسم الشاعر الإسباني العظيم فيدريكو جارثيا لوركا Federico Garcia Lorca الذي ولد في قرية من إقليم غرناطة سنة 1898 وقتل في سنة 1936، ويعتبر ديوانه «أناشيد الغجر» من خير المجموعات الشعرية الإسبانية في القرن العشرين، وله روايات شعرية مسرحية يتجه فيها إلى موضوعات قديمة، إلا أنه يضفي عليها إنسانية حارة لا تخلو من المبالغة في التصوير، لا سيما في «المأساة»، إلى حد يجعله قريباً من الكتّاب الإغريق للمسرحيات الدرامية. ويمتاز أدبه كذلك بنزعة روحية طاغية وبالألوان العنيفة الصارخة.
وهكذا، نجد أن اسم كاتبين عظيمين من كتّاب أدبنا العربي الحديث تترجم أعمالهما إلى الإسبانية، وتُقرأ في ضوء التحليل والمقارنة بنصوص إسبانية كتبها أعلام الأدب الإسباني، في نفس الفترة، ونرى بالدليل النصي المقارن والتحليل النقدي المعمق مدى فرادة وخصوصية هذه النصوص.